ويرد على تساؤلهم ذاك ردا تفوح منه رائحة التهكم والإنذار والتهديد:
[ ص: 3013 ] بل هم في شك من ذكري. بل لما يذوقوا عذاب ..
إنهم يسألون: أأنزل عليه الذكر من بيننا! .. وهم في شك من الذكر ذاته، لم تستيقن نفوسهم أنه من عند الله; وإن كانوا يمارون في حقيقته، وهو فوق المألوف من قول البشر مما يعرفون.
ثم يضرب عن قولهم في الذكر، وعن شكهم فيه، ليستقبل بهم تهديدا بالعذاب، بل لما يذوقوا عذاب ..
وكأنما ليقول: إنهم يقولون ما يقولون لأنهم في منجاة بعد من العذاب; فأما حين يذوقونه فلن يقولوا من هذا شيئا، لأنهم حينئذ سيعرفون!
ثم يعقب على استكثارهم رحمة الله لمحمد في اختياره رسولا من بينهم، بسؤالهم إن كانوا يملكون خزائن رحمة الله، حتى يتحكموا فيمن يعطون ومن يمنعون:
أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب؟ ..
ويندد بسوء أدبهم مع الله، وتدخلهم فيما ليس من شأن العبيد. والله يعطي من يشاء ويمنع من يريد. وهو العزيز القادر الذي لا يملك أحد أن يقف لإرادته. وهو الوهاب الكريم الذي لا ينفد عطاؤه.
وهم يستكثرون على محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يختاره الله. فبأي حق وبأية صفة يوزعون عطاء الله؟ وهم لا يملكون خزائن رحمته؟!
أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما؟ ..
وهي دعوى لا يجرؤون على ادعائها. ومالك السماوات والأرض وما بينهما هو الذي يمنح ويمنع، ويصطفي من يشاء ويختار. وإذ لم يكن لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فما بالهم يدخلون في شؤون المالك المتصرف فيما يملك بما يشاء؟
وعلى سبيل التهكم والتبكيت عقب على السؤال عما إذا كان لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما. بأنه إن كان الأمر كذلك فليرتقوا في الأسباب .. ليشرفا على السماوات والأرض وما بينهما، ويتحكموا في خزائن الله; ويعطوا من يشاءون ويمنعوا من يشاءون. كما هو مقتضى اعتراضهم على اختيار الله المالك المتصرف فيما يملك بما يشاء!
ثم أنهى هذا الفرض التهكمي بتقرير حقيقتهم الواقعية:
جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب ..
إنهم ما يزيدون على أن يكونوا جندا مهزوما ملقى هنالك بعيدا; لا يقرب من تصريف هذا الملك وتدبير تلك الخزائن. ولا شأن له فيما يجري في ملك الله; ولا قدرة له على تغيير إرادة الله; ولا قوة له على اعتراض مشيئة الله.. جند ما .. جند مجهول منكر هين الشأن، مهزوم .. كأن الهزيمة صفة لازمة له، لاصقة به، مركبة في كيانه! من الأحزاب .. المختلفة الاتجاهات والأهواء!
وما يبلغ أعداء الله ورسوله إلا أن يكونوا في هذا الموضع الذي تصوره ظلال التعبير القرآني، الموحية بالعجز والضعف والبعد عن دائرة التصريف والتدبير.. مهما تبلغ قوتهم، ويتطاول بطشهم، ويتجبروا في الأرض فترة من الزمان.
ويضرب الله الأمثال لأولئك المتجبرين على مدار القرون; فإذا هم جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب :
كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد، وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة. أولئك الأحزاب. [ ص: 3014 ] إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب ..
فهذه أمثلة ممن سبقوا قريشا في التاريخ. قوم نوح. وعاد. وفرعون صاحب الأهرام التي تقوم في الأرض كالأوتاد. وثمود. وقوم لوط. وقوم شعيب أصحاب الأيكة - الغابة الملتفة - أولئك الأحزاب ! الذين كذبوا الرسل. فماذا كان من شأنهم وهم طغاة بغاة متجبرون؟ .. فحق عقاب .. وكان ما كان من أمرهم.
وذهبوا فلم يبق منهم غير آثار تنطق بالهزيمة والاندحار!
ذلك كان شأن الأحزاب الغابرة في التاريخ.. فأما هؤلاء فمتروكون - في عمومهم - إلى الصيحة التي تنهي الحياة في الأرض قبيل يوم الحساب:
وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق ..
هذه الصيحة إذا جاءت لا تستأخر ولو فترة قصيرة مقدار فواق ناقة. وهي المسافة بين الحلبتين! لأنها تجيء في موعدها المحدد، الذي لا يستقدم ولا يستأخر. كما قدر الله لهذه الأمة الأخيرة أن ينظرها ويمهلها، فلا يأخذها بالدمار والهلاك كما أخذ من قبل أولئك الأحزاب.
وكان هذا رحمة بهم من الله. ولكنهم لم يعرفوا قدر هذه الرحمة، ولم يشكروا لله هذه المنة. فاستعجلوا جزاءهم، وطلبوا أن يوفيهم الله حظهم ونصيبهم، قبل اليوم الذي أنظرهم إليه:
وقالوا: ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ..
وعند هذا الحد يتركهم السياق ويلتفت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يسليه عن حماقة القوم وسوء أدبهم مع الله، واستعجالهم بالجزاء، وتكذيبهم بالوعيد، وكفرهم برحمة الله.. ويدعوه أن يذكر ما وقع للرسل قبله من ابتلاء. وما نالهم من رحمة الله بعد البلاء..