ولقد استجاب الملائكة لأمر ربهم كما هي فطرتهم:
فسجد الملائكة كلهم أجمعون ..
كيف؟ وأين؟ ومتى؟ كل أولئك غيب من غيب الله. ومعرفته لا تزيد في مغزى القصة شيئا. هذا المغزى الذ يبرز في تقدير قيمة هذا الإنسان المخلوق من الطين بعد ما ارتفع عن أصله بتلك النفخة من روح الله العظيم.
[ ص: 3028 ] سجد الملائكة امتثالا لأمر الله، وشعورا بحكمته فيما يراه.
إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين ..
فهل كان إبليس من الملائكة؟ الظاهر أنه لا. لأنه لو كان من الملائكة ما عصى. فالملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.. وسيجيء أنه خلق من نار. والمأثور أن الملائكة خلق من نور.. ولكنه كان مع الملائكة وكان مأمورا بالسجود. ولم يخص بالذكر الصريح عند الأمر إهمالا لشأنه بسبب ما كان من عصيانه. إنما عرفنا أن الأمر كان قد وجه إليه من توجيه التوبيخ إليه:
قال: يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي؟ أستكبرت؟ أم كنت من العالين؟ ..
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي؟ والله خالق كل شيء. فلا بد أن تكون هناك خصوصية في خلق هذا الإنسان تستحق هذا التنويه. هي خصوصية العناية الربانية بهذا الكائن وإيداعه نفخة من روح الله دلالة على هذه العناية.
أستكبرت؟ عن أمري أم كنت من العالين؟ الذين لا يخضعون؟
قال: أنا خير منه. خلقتني من نار وخلقته من طين !
إنه الحسد ينضح من هذا الرد. والغفلة أو الإغفال للعنصر الكريم الزائد على الطين في آدم، والذي يستحق هذا التكريم. وهو الرد القبيح الذي يصدر عن الطبيعة التي تجردت من الخير كله في هذا الموقف المشهود.
هنا صدر الأمر الإلهي العالي بطرد هذا المخلوق المتمرد القبيح:
قال: فاخرج منها فإنك رجيم. وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين ..
ولا نملك أن نحدد عائد الضمير في قوله: منها فهل هي الجنة؟ أم هل هي رحمة الله.. هذا وذلك جائز. ولا محل للجدل الكثير. فإنما هو الطرد واللعنة والغضب جزاء التمرد والتجرؤ على أمر الله لكريم.
هنا تحول الحسد إلى حقد. وإلى تصميم على الانتقام في نفس إبليس:
قال: رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ..
واقتضت مشيئة الله للحكمة المقدرة في علمه أن يجيبه إلى ما طلب، وأن يمنحه الفرصة التي أراد:
قال: فإنك من المنظرين. إلى يوم الوقت المعلوم ..
وكشف الشيطان عن هدفه الذي ينفق فيه حقده:
قال: فبعزتك لأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين ..
وبهذا تحدد منهجه وتحدد طريقه. إنه يقسم بعزة الله ليغوين جميع الآدميين. لا يستثني إلا منليس له عليهم سلطان. لا تطوعا منه ولكن عجزا عن بلوغ غايته فيهم! وبهذا يكشف عن الحاجز بينه وبين الناجين من غوايته وكيده; والعاصم الذي يحول بينهم وبينه. إنه عبادة الله التي تخلصهم لله. هذا هو طوق النجاة. وحبل الحياة! .. وكان هذا وفق إرادة الله وتقديره في الردى والنجاة. فأعلن - سبحانه - إرادته. وحدد المنهج والطريق:
قال: فالحق. والحق أقول. لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ..
والله يقول الحق دائما. والقرآن يقرر هذا ويؤكد الإشارة إليه في هذه السورة في شتى صوره ومناسباته. فالخصم الذين تسوروا المحراب على داود يقولون له: فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط .. والله ينادي عبده [ ص: 3029 ] داود: فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى .. ثم يعقب على هذا بالإشارة إلى الحق الكامن في خلق السماوات والأرض: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا. ذلك ظن الذين كفروا .. ثم يجيء ذكر الحق على لسان القوي العزيز: قال فالحق والحق أقول .. فهو الحق الذي تتعدد مواضعه وصوره، وتتحد طبيعته وكنهه. ومنه هذا الوعد الصادق:
لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ..
وهي المعركة إذن بين الشيطان وأبناء آدم، يخوضونها على علم. والعقبة مكشوفة لهم في وعد الله الصادق الواضح المبين. وعليهم تبعة ما يختارون لأنفسهم بعد هذا البيان. وقد شاءت رحمة الله ألا يدعهم جاهلين ولا غافلين. فأرسل إليهم المنذرين.
وفي نهاية الشوط وختام السورة يكلف الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يلقي إليهم بالقول الأخير:
قل: ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين. إن هو إلا ذكر للعالمين. ولتعلمن نبأه بعد حين ..
إنها الدعوة الخالصة للنجاة، بعد كشف المصير وإعلان النذير. الدعوة الخالصة التي لا يطلب صاحبها أجرا وهو الداعية السليم الفطرة، الذي ينطق بلسانه، لا يتكلف ولا يتصنع، ولا يأمر إلا بما يوحي منطق الفطرة القريب. وإنه للتذكير للعالمين أجمعين فقد ينسون ويغفلون. وإنه للنبأ العظيم الذي لا يلقون بالهم إليه اليوم. وليعلمن نبأه بعد حين. نبأه في الأرض - وقد علموه بعد سنوات من هذا القول - ونبأه في اليوم المعلوم. عند ما يحق وعد الله اليقين: لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ..
إنه الختام الذي يتناسق مع افتتاح السورة ومع موضوعها والقضايا التي تعالجها: وهو الإيقاع المدوي العميق، الموحي بضخامة ما سيكون: ولتعلمن نبأه بعد حين ..
انتهى الجزء الثالث والعشرون ويليه الجزء الرابع والعشرون مبدوءا بسورة الزمر