ثم يقرر هذه الحقيقة في صورة أخرى منتزعة من منطقهم هم أنفسهم، ومن واقع ما يقررونه من حقيقة الله في فطرتهم:
nindex.php?page=treesubj&link=29010_19647_19731_29706_29723_30549_34131_34295nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=38ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض؟ ليقولن الله. قل. أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره؟ أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته؟ قل: حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون ..
لقد كانوا يقررون - حين يسألون - أن الله هو خالق السماوات والأرض. وما تملك فطرة أن تقول غير هذا، وما يستطيع عقل أن يعلل نشأة السماوات والأرض إلا بوجود إرادة عليا. فهو يأخذهم ويأخذ العقلاء جميعا بهذه الحقيقة الفطرية الواضحة.. إذا كان الله هو خالق السماوات والأرض. فهل يملك أحد أو شيء في هذه
[ ص: 3054 ] السماوات والأرض أن يكشف ضرا أراد الله أن يصيب به عبدا من عباده؟ أم يملك أحد أو شيء في هذه السماوات والأرض أن يحبس رحمة أراد الله أن تنال عبدا من عباده؟
والجواب القاطع: أن لا.. فإذا تقرر هذا فما الذي يخشاه داعية إلى الله؟ ما الذي يخشاه وما الذي يرجوه؟ وليس أحد بكاشف الضر عنه؟ وليس أحد بمانع الرحمة عنه؟ وما الذي يقلقه أو يخيفه أو يصده عن طريقه؟
إنه متى استقرت هذه الحقيقة في قلب مؤمن فقد انتهى الأمر بالنسبة إليه. وقد انقطع الجدل. وانقطع الخوف وانقطع الأمل. إلا في جناب الله سبحانه. فهو كاف عبده وعليه يتوكل وحده:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=38قل: حسبي الله. عليه يتوكل المتوكلون ..
ثم إنها الطمأنينة بعد هذا والثقة واليقين. الطمأنينة التي لا تخاف. والثقة التي لا تقلق. واليقين الذي لا يتزعزع. والمضي في الطريق على ثقة بنهاية الطريق:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=39قل: يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل. فسوف تعلمون nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=40من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ..
يا قوم اعملوا على طريقكم وعلى حالكم. إني ماض في طريقي لا أميل ولا أخاف ولا أقلق. وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه في الدنيا، ويحل عليه عذاب مقيم في الآخرة..
لقد قضي الأمر بعد عرض الحقيقة البسيطة التي تنطق بها الفطرة ويشهد بها الوجود.. إن الله هو خالق السماوات والأرض. القاهر فوق السماوات والأرض. وهو صاحب هذه الدعوة التي يحملها الرسل ويتولاها الدعاة. فمن ذا في السماوات والأرض يملك لرسله شيئا أو لدعاته؟ ومن ذا يملك أن يدفع عنهم ضرا أو يمسك عنهم رحمة؟ وإذا لم يكن. فماذا يخشون وماذا يرجون عند غير الله؟
ألا لقد وضح الأمر ولقد تعين الطريق; ولم يعد هناك مجال لجدال أو محال!
تلك حقيقة الوضع بين رسل الله وسائر قوى الأرض التي تقف لهم في الطريق. فما حقيقة وظيفتهم وما شأنهم مع المكذبين؟
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=41إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق. فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها. وما أنت عليهم بوكيل. nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=42الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها، فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى. إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=43أم اتخذوا من دون الله شفعاء؟ قل: أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون؟ nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=44قل: لله الشفاعة جميعا. له ملك السماوات والأرض، ثم إليه ترجعون ..
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=41إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق .. الحق في طبيعته. والحق في منهجه. والحق في شريعته. الحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض; ويلتقي عليه نظام البشرية في هذا الكتاب ونظام الكون كله في تناسق. هذا الحق نزل " للناس " ليهتدوا به ويعيشوا معه ويقوموا عليه. وأنت مبلغ. وهم بعد ذلك وما يشاءون لأنفسهم من هدى أو ضلال، ومن نعيم أو عذاب. فكل مورد نفسه ما يشاء; وما أنت بمسيطر عليهم ولا بمسؤول عنهم:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=41فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وما أنت عليهم بوكيل ..
إنما الوكيل عليهم هو الله. وهم في قبضته في صحوهم ونومهم وفي كل حالة من حالاتهم، وهو يتصرف بهم كما يشاء:
[ ص: 3055 ] nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=42الله يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت في منامها. فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ..
فالله يستوفي الآجال للأنفس التي تموت. وهو يتوفاها كذلك في منامها - وإن لم تمت بعد - ولكنها في النوم متوفاة إلى حين. فالتي حان أجلها يمسكها فلا تستيقظ. والتي لم يحن أجلها بعد يرسلها فتصحو. إلى أن يحل أجلها المسمى. فالأنفس في قبضته دائما في صحوها ونومها.
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=42إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ..
إنهم هكذا في قبضة الله دائما. وهو الوكيل عليهم. ولست عليهم بوكيل. وإنهم إن يهتدوا فلأنفسهم وإن يضلوا فعليها. وإنهم محاسبون إذن وليسوا بمتروكين.. فماذا يرجون إذن للفكاك والخلاص؟
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=43أم اتخذوا من دون الله شفعاء؟ قل: أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون؟ nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=44قل: لله الشفاعة جميعا. له ملك السماوات والأرض، ثم إليه ترجعون ..
وهو سؤال للتهكم والسخرية من زعمهم أنهم يعبدون تماثيل الملائكة ليقربوهم إلى الله زلفى!
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=43أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون؟ .. يعقبه تقرير جازم بأن لله الشفاعة جميعا. فهو الذي يأذن بها لمن يشاء على يد من شاء. فهل مما يؤهلهم للشفاعة أن يتخذوا من دون الله شركاء؟!
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=44له ملك السماوات والأرض .. فليس هنالك خارج على إرادته في هذا الملك..
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=44ثم إليه ترجعون .. فلا مهرب ولا مفر من الرجوع إليه وحده في نهاية المطاف..
وفي هذا الموقف الذي يتفرد فيه الله سبحانه بالملك والقهر يعرض كيف هم ينفرون من كلمة التوحيد ويهشون لكلمة الشرك، الذي ينكره كل ما حولهم في الوجود:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=45وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون .
والآية تصف واقعة حال على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - حين كان المشركون يهشون ويبشون إذا ذكرت آلهتهم; وينقبضون وينفرون إذا ذكرت كلمة التوحيد. ولكنها تصف حالة نفسية تتكرر في شتى البيئات والأزمان. فمن الناس من تشمئز قلوبهم وتنقبض نفوسهم كلما دعوا إلى الله وحده إلها، وإلى شريعة الله وحدها قانونا، وإلى منهج الله وحده نظاما. حتى إذا ذكرت المناهج الأرضية والنظم الأرضية والشرائع الأرضية هشوا وبشوا ورحبوا بالحديث، وفتحوا صدورهم للأخذ والرد. هؤلاء هم بعينهم الذين يصور الله نموذجا منهم في هذه الآية، وهم بذاتهم في كل زمان ومكان. هم الممسوخو الفطرة، المنحرفو الطبيعة، الضالون المضلون، مهما تنوعت البيئات والأزمنة، ومهما تنوعت الأجناس والأقوام.
والجواب على هذا المسخ والانحراف والضلال هو ما لقنه الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في مواجهة مثل هذه الحال:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=46قل: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون ..
إنه دعاء الفطرة التي ترى السماء والأرض; ويتعذر عليها أن تجد لها خالقا إلا الله فاطر السماوات والأرض، فتتجه إليه بالاعتراف والإقرار. وتعرفه بصفته اللائقة بفاطر السماوات والأرض.
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=46عالم الغيب والشهادة المطلع
[ ص: 3056 ] على الغائب والحاضر، والباطن والظاهر.
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=46أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون .. فهو وحده الحكم يوم يرجعون إليه. وهم لا بد راجعون.
وبعد هذا التلقين يعرض حالهم المفزعة يوم يرجعون للحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=47ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون. nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=48وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ..
إنه الهول الملفوف في ثنايا التعبير الرهيب.فلو أن لهؤلاء الظالمين - الظالمين بشركهم وهو الظلم العظيم - لو أن لهؤلاء
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=47ما في الأرض جميعا .. مما يحرصون عليه وينأون عن الإسلام اعتزازا به.
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=47ومثله معه .. لقدموه فدية مما يرون من سوء العذاب يوم القيامة..
وهول آخر يتضمنه التعبير الملفوف:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=47وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ..
ولا يفصح عما بدا لهم من الله ولم يكونوا يتوقعونه. لا يفصح عنه ولكنه هكذا هائل مذهل مخيف.. فهو الله. الله الذي يبدو منه لهؤلاء الضعاف ما لا يتوقعون! هكذا بلا تعريف ولا تحديد!.
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=48وبدا لهم سيئات ما كسبوا، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ..
وهذه كذلك تزيد الموقف سوءا. حين يتكشف لهم قبح ما فعلوا; وحين يحيط بهم ما كانوا به يستهزئون من الوعيد والنذير. وهم في ذلك الموقف الأليم الرعيب..
وبعد هذا المشهد المعترض لبيان حالهم يوم يرجعون إلى الله الذي به يشركون، والذي تشمئز قلوبهم حين يذكر وحده، وتستبشر حينما تذكر آلهتهم المدعاة. بعد هذا يعود إلى تصوير حالهم العجيب. فهم ينكرون وحدانية الله. فأما حين يصيبهم الضر فهم لا يتوجهون إلا له وحده ضارعين منيبين. حتى إذا تفضل عليهم وأنعم راحوا يتبجحون وينكرون:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=49فإذا مس الإنسان ضر دعانا. ثم إذا خولناه نعمة منا، قال: إنما أوتيته على علم. بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون ..
والآية تصور نموذجا مكررا للإنسان، ما لم تهتد فطرته إلى الحق، وترجع إلى ربها الواحد، وتعرف الطريق إليه، فلا تضل عنه في السراء والضراء.
إن الضر يسقط عن الفطرة ركام الأهواء والشهوات، ويعريها من العوامل المصطنعة التي تحجب عنها الحق الكامن فيها وفي ضمير هذا الوجود. فعندئذ ترى اله وتعرفه وتتجه إليه وحده. حتى إذا مرت الشدة وجاء الرخاء، نسي هذا الإنسان ما قاله في الضراء، وانحرفت فطرته بتأثير الأهواء. وقال عن النعمة والرزق والفضل:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=49إنما أوتيته على علم .. قالها قارون، وقالها كل مخدوع بعلم أو صنعة أو حيلة يعلل بها ما اتفق له من مال أو سلطان. غافلا عن مصدر النعمة، وواهب العلم والقدرة، ومسبب الأسباب، ومقدر الأرزاق.
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=49بل هي فتنة. ولكن أكثرهم لا يعلمون ..
هي فتنة للاختبار والامتحان؛ ليتبين إن كان سيشكر أو سيكفر; وإن كان سيصلح بها أم سيفسد; وإن كان سيعرف الطريق أم يجنح إلى الضلال.
[ ص: 3057 ] والقرآن - رحمة بالعباد - يكشف لهم عن السر، وينبههم إلى الخطر، ويحذرهم الفتنة. فلا حجة لهم ولا عذر بعد هذا البيان.
وهو يلمس قلوبهم بعرض مصارع الغابرين قبلهم. مصارعهم بمثل هذه الكلمة الضالة التي يقولها قائلهم:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=49إنما أوتيته على علم ..
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=50قد قالها الذين من قبلهم، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون. nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=51فأصابهم سيئات ما كسبوا. والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين ..
هي ذاتها هذه الكلمة الضالة قالها الذين من قبلهم، فانتهت بهم إلى السوء والوبال. ولم يغن عنهم علمهم ولا مالهم ولا قوتهم شيئا. وهؤلاء سيصيبهم ما أصاب الغابرين. فسنة الله لا تتبدل
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=51وما هم بمعجزين .. فالله لا يعجزه خلقه الضعاف المهازيل!
فأما ما أعطاهم الله من نعمة، وما وهبهم من رزق، فإنه يتبع إرادة الله وفق حكمته وتقديره في بسط الرزق وقبضه، ليبتلي عباده، ولينفذ مشيئته كما يريد:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=52أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر؟ إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون .. فلا يجعلوا آيات الله سببا في الكفر والضلال. وهي جاءت للهدى والإيمان.
ثُمَّ يُقَرِّرُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ فِي صُورَةٍ أُخْرَى مُنْتَزَعَةٍ مِنْ مَنْطِقِهِمْ هُمْ أَنْفُسُهُمْ، وَمِنْ وَاقِعِ مَا يُقَرِّرُونَهُ مِنْ حَقِيقَةِ اللَّهِ فِي فِطْرَتِهِمْ:
nindex.php?page=treesubj&link=29010_19647_19731_29706_29723_30549_34131_34295nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=38وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ؟ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ. قُلْ. أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مَنْ دُونِ اللَّهُ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ؟ أَوْ أَرَادَنِيَ بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ؟ قُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ..
لَقَدْ كَانُوا يُقَرِّرُونَ - حِينَ يَسْأَلُونَ - أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَمَا تَمْلِكُ فِطْرَةٌ أَنْ تَقُولَ غَيْرَ هَذَا، وَمَا يَسْتَطِيعُ عَقْلٌ أَنْ يُعَلِّلَ نَشْأَةَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا بِوُجُودِ إِرَادَةٍ عُلْيَا. فَهُوَ يَأْخُذُهُمْ وَيَأْخُذُ الْعُقَلَاءَ جَمِيعًا بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْفِطْرِيَّةِ الْوَاضِحَةِ.. إِذَا كَانَ اللَّهُ هُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. فَهَلْ يَمْلِكُ أَحَدٌ أَوْ شَيْءٌ فِي هَذِهِ
[ ص: 3054 ] السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْ يَكْشِفَ ضُرًّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَ بِهِ عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ؟ أَمْ يَمْلِكُ أَحَدٌ أَوْ شَيْءٌ فِي هَذِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْ يَحْبِسَ رَحْمَةً أَرَادَ اللَّهُ أَنْ تَنَالَ عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ؟
وَالْجَوَابُ الْقَاطِعُ: أَنْ لَا.. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَمَا الَّذِي يَخْشَاهُ دَاعِيَةٌ إِلَى اللَّهِ؟ مَا الَّذِي يَخْشَاهُ وَمَا الَّذِي يَرْجُوهُ؟ وَلَيْسَ أَحَدٌ بِكَاشِفِ الضُّرِّ عَنْهُ؟ وَلَيْسَ أَحَدٌ بِمَانِعِ الرَّحْمَةِ عَنْهُ؟ وَمَا الَّذِي يُقْلِقُهُ أَوْ يُخِيفُهُ أَوْ يَصُدُّهُ عَنْ طَرِيقِهِ؟
إِنَّهُ مَتَى اسْتَقَرَّتْ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ فِي قَلْبٍ مُؤْمِنٍ فَقَدِ انْتَهَى الْأَمْرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ. وَقَدِ انْقَطَعَ الْجَدَلُ. وَانْقَطَعَ الْخَوْفُ وَانْقَطَعَ الْأَمَلُ. إِلَّا فِي جَنَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. فَهُوَ كَافٍ عَبْدَهُ وَعَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ وَحْدَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=38قُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ. عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ..
ثُمَّ إِنَّهَا الطُّمَأْنِينَةُ بَعْدَ هَذَا وَالثِّقَةُ وَالْيَقِينُ. الطُّمَأْنِينَةُ الَّتِي لَا تَخَافُ. وَالثِّقَةُ الَّتِي لَا تُقْلِقُ. وَالْيَقِينُ الَّذِي لَا يَتَزَعْزَعُ. وَالْمُضِيُّ فِي الطَّرِيقِ عَلَى ثِقَةٍ بِنِهَايَةِ الطَّرِيقِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=39قُلْ: يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=40مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ..
يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى طَرِيقِكُمْ وَعَلَى حَالِكُمْ. إِنِّي مَاضٍ فِي طَرِيقِي لَا أَمِيلُ وَلَا أَخَافُ وَلَا أَقْلَقُ. وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ فِي الدُّنْيَا، وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ فِي الْآخِرَةِ..
لَقَدْ قُضِيَ الْأَمْرُ بَعْدَ عَرْضِ الْحَقِيقَةِ الْبَسِيطَةِ الَّتِي تَنْطِقُ بِهَا الْفِطْرَةُ وَيَشْهَدُ بِهَا الْوُجُودُ.. إِنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. الْقَاهِرُ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَهُوَ صَاحِبُ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الَّتِي يَحْمِلُهَا الرُّسُلُ وَيَتَوَلَّاهَا الدُّعَاةُ. فَمَنْ ذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمْلِكُ لِرُسُلِهِ شَيْئًا أَوْ لِدُعَاتِهِ؟ وَمَنْ ذَا يَمْلِكُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُمْ ضُرًّا أَوْ يُمْسِكَ عَنْهُمْ رَحْمَةً؟ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ. فَمَاذَا يَخْشَوْنَ وَمَاذَا يَرْجُونَ عِنْدَ غَيْرِ اللَّهِ؟
أَلَا لَقَدْ وَضَحَ الْأَمْرُ وَلَقَدْ تَعَيَّنَ الطَّرِيقُ; وَلَمْ يَعُدْ هُنَاكَ مَجَالٌ لِجِدَالٍ أَوْ مُحَالٌ!
تِلْكَ حَقِيقَةُ الْوَضْعِ بَيْنَ رُسُلِ اللَّهِ وَسَائِرِ قُوَى الْأَرْضِ الَّتِي تَقِفُ لَهُمْ فِي الطَّرِيقِ. فَمَا حَقِيقَةُ وَظِيفَتِهِمْ وَمَا شَأْنُهُمْ مَعَ الْمُكَذِّبِينَ؟
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=41إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ. فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا. وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ. nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=42اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=43أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ؟ قُلْ: أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ؟ nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=44قُلْ: لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا. لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=41إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ .. الْحَقُّ فِي طَبِيعَتِهِ. وَالْحَقُّ فِي مَنْهَجِهِ. وَالْحَقُّ فِي شَرِيعَتِهِ. الْحَقُّ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ; وَيَلْتَقِي عَلَيْهِ نِظَامُ الْبَشَرِيَّةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَنِظَامِ الْكَوْنِ كُلِّهِ فِي تَنَاسُقٍ. هَذَا الْحَقُّ نُزِّلَ " لِلنَّاسِ " لِيَهْتَدُوا بِهِ وَيَعِيشُوا مَعَهُ وَيَقُومُوا عَلَيْهِ. وَأَنْتَ مُبَلِّغٌ. وَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَا يَشَاءُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ هُدًى أَوْ ضَلَالٍ، وَمِنْ نَعِيمٍ أَوْ عَذَابٍ. فَكُلٌّ مُورِدٌ نَفْسَهُ مَا يَشَاءُ; وَمَا أَنْتَ بِمُسَيْطِرٍ عَلَيْهِمْ وَلَا بِمْسُؤُولٍ عَنْهُمْ:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=41فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا، وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ..
إِنَّمَا الْوَكِيلُ عَلَيْهِمْ هُوَ اللَّهُ. وَهُمْ فِي قَبْضَتِهِ فِي صَحْوِهِمْ وَنَوْمِهِمْ وَفِي كُلِّ حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِهِمْ، وَهُوَ يَتَصَرَّفُ بِهِمْ كَمَا يَشَاءُ:
[ ص: 3055 ] nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=42اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا. فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ..
فَاللَّهُ يَسْتَوْفِي الْآجَالَ لِلْأَنْفُسِ الَّتِي تَمُوتُ. وَهُوَ يَتَوَفَّاهَا كَذَلِكَ فِي مَنَامِهَا - وَإِنْ لَمْ تَمُتْ بَعْدُ - وَلَكِنَّهَا فِي النَّوْمِ مُتَوَفَّاةٌ إِلَى حِينٍ. فَالَّتِي حَانَ أَجَلُهَا يُمْسِكُهَا فَلَا تَسْتَيْقِظُ. وَالَّتِي لَمْ يَحِنْ أَجَلُهَا بَعْدُ يُرْسِلُهَا فَتَصْحُو. إِلَى أَنْ يَحِلَّ أَجَلُهَا الْمُسَمَّى. فَالْأَنْفُسُ فِي قَبْضَتِهِ دَائِمًا فِي صَحْوِهَا وَنَوْمِهَا.
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=42إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ..
إِنَّهُمْ هَكَذَا فِي قَبْضَةِ اللَّهِ دَائِمًا. وَهُوَ الْوَكِيلُ عَلَيْهِمْ. وَلَسْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ. وَإِنَّهُمْ إِنْ يَهْتَدُوا فَلِأَنْفُسِهِمْ وَإِنْ يَضِلُّوا فَعَلَيْهَا. وَإِنَّهُمْ مُحَاسَبُونَ إِذَنْ وَلَيْسُوا بِمَتْرُوكِينَ.. فَمَاذَا يَرْجُونَ إِذَنْ لِلْفِكَاكِ وَالْخَلَاصِ؟
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=43أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ؟ قُلْ: أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ؟ nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=44قُلْ: لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا. لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ..
وَهُوَ سُؤَالٌ لِلتَّهَكُّمِ وَالسُّخْرِيَةِ مِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ تَمَاثِيلَ الْمَلَائِكَةِ لِيُقَرِّبُوهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى!
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=43أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ؟ .. يَعْقُبُهُ تَقْرِيرٌ جَازِمٌ بِأَنَّ لِلَّهِ الشَّفَاعَةَ جَمِيعًا. فَهُوَ الَّذِي يَأْذَنُ بِهَا لِمَنْ يَشَاءُ عَلَى يَدِ مَنْ شَاءَ. فَهَلْ مِمَّا يُؤَهِّلُهُمْ لِلشَّفَاعَةِ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ؟!
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=44لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ .. فَلَيْسَ هُنَالِكَ خَارِجٌ عَلَى إِرَادَتِهِ فِي هَذَا الْمُلْكِ..
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=44ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ .. فَلَا مَهْرَبَ وَلَا مَفَرَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ فِي نِهَايَةِ الْمَطَافِ..
وَفِي هَذَا الْمَوْقِفِ الَّذِي يَتَفَرَّدُ فِيهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْمُلْكِ وَالْقَهْرِ يَعْرِضُ كَيْفَ هُمْ يَنْفِرُونَ مِنْ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَيَهُشُّونَ لِكَلِمَةِ الشِّرْكِ، الَّذِي يُنْكِرُهُ كُلُّ مَا حَوْلَهُمْ فِي الْوُجُودِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=45وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ، وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ .
وَالْآيَةُ تَصِفُ وَاقِعَةَ حَالٍ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَهُشُّونَ وَيَبُشُّونَ إِذَا ذَكَرْتَ آلِهَتَهُمْ; وَيَنْقَبِضُونَ وَيَنْفِرُونَ إِذَا ذَكَرْتَ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ. وَلَكِنَّهَا تَصِفُ حَالَةً نَفْسِيَّةً تَتَكَرَّرُ فِي شَتَّى الْبِيئَاتِ وَالْأَزْمَانِ. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَشْمَئِزُّ قُلُوبُهُمْ وَتَنْقَبِضُ نُفُوسُهُمْ كُلَّمَا دَعَوْا إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ إِلَهًا، وَإِلَى شَرِيعَةِ اللَّهِ وَحْدَهَا قَانُونًا، وَإِلَى مَنْهَجِ اللَّهِ وَحْدَهُ نِظَامًا. حَتَّى إِذَا ذَكَرْتَ الْمَنَاهِجَ الْأَرْضِيَّةَ وَالنُّظُمَ الْأَرْضِيَّةَ وَالشَّرَائِعَ الْأَرْضِيَّةَ هَشُّوا وَبَشُّوا وَرَحَّبُوا بِالْحَدِيثِ، وَفَتَحُوا صُدُورَهُمْ لِلْأَخْذِ وَالرَّدِّ. هَؤُلَاءِ هُمْ بِعَيْنِهِمُ الَّذِينَ يُصَوِّرُ اللَّهُ نَمُوذَجًا مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُمْ بِذَاتِهِمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ. هُمُ الْمَمْسُوخُو الْفِطْرَةِ، الْمُنْحَرِفُو الطَّبِيعَةِ، الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ، مَهْمَا تَنَوَّعَتِ الْبِيئَاتُ وَالْأَزْمِنَةُ، وَمَهْمَا تَنَوَّعَتِ الْأَجْنَاسُ وَالْأَقْوَامُ.
وَالْجَوَابُ عَلَى هَذَا الْمَسْخِ وَالِانْحِرَافِ وَالضَّلَالِ هُوَ مَا لَقَّنَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُوَاجَهَةِ مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=46قُلِ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ..
إِنَّهُ دُعَاءُ الْفِطْرَةِ الَّتِي تَرَى السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ; وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهَا أَنْ تَجِدَ لَهَا خَالِقًا إِلَّا اللَّهَ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَتَتَّجِهُ إِلَيْهِ بِالِاعْتِرَافِ وَالْإِقْرَارِ. وَتُعَرِّفُهُ بِصِفَتِهِ اللَّائِقَةِ بِفَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=46عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْمُطَّلِعِ
[ ص: 3056 ] عَلَى الْغَائِبِ وَالْحَاضِرِ، وَالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ.
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=46أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ .. فَهُوَ وَحْدَهُ الْحُكْمُ يَوْمَ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ. وَهُمْ لَا بُدَّ رَاجِعُونَ.
وَبَعْدَ هَذَا التَّلْقِينِ يَعْرِضُ حَالَهُمُ الْمُفْزِعَةَ يَوْمَ يَرْجِعُونَ لِلْحُكْمِ بَيْنَهُمْ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=47وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=48وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ..
إِنَّهُ الْهَوْلُ الْمَلْفُوفُ فِي ثَنَايَا التَّعْبِيرِ الرَّهِيبِ.فَلَوْ أَنَّ لِهَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ - الظَّالِمِينَ بِشِرْكِهِمْ وَهُوَ الظُّلْمُ الْعَظِيمُ - لَوْ أَنَّ لِهَؤُلَاءِ
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=47مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا .. مِمَّا يَحْرِصُونَ عَلَيْهِ وَيَنْأَوْنَ عَنِ الْإِسْلَامِ اعْتِزَازًا بِهِ.
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=47وَمِثْلَهُ مَعَهُ .. لَقَدَّمُوهُ فِدْيَةً مِمَّا يَرَوْنَ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ..
وَهَوْلٌ آخَرُ يَتَضَمَّنُهُ التَّعْبِيرُ الْمَلْفُوفُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=47وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ..
وَلَا يُفْصِحُ عَمَّا بَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ وَلَمْ يَكُونُوا يَتَوَقَّعُونَهُ. لَا يُفْصِحُ عَنْهُ وَلَكِنَّهُ هَكَذَا هَائِلٌ مُذْهِلٌ مُخِيفٌ.. فَهُوَ اللَّهُ. اللَّهُ الَّذِي يَبْدُو مِنْهُ لِهَؤُلَاءِ الضِّعَافِ مَا لَا يَتَوَقَّعُونَ! هَكَذَا بِلَا تَعْرِيفٍ وَلَا تَحْدِيدٍ!.
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=48وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا، وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ..
وَهَذِهِ كَذَلِكَ تَزِيدُ الْمَوْقِفَ سُوءًا. حِينَ يَتَكَشَّفُ لَهُمْ قُبْحُ مَا فَعَلُوا; وَحِينَ يُحِيطُ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ مِنَ الْوَعِيدِ وَالنَّذِيرِ. وَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ الْأَلِيمِ الرَّعِيبِ..
وَبَعْدَ هَذَا الْمَشْهَدِ الْمُعْتَرِضِ لِبَيَانِ حَالِهِمْ يَوْمَ يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّهِ الَّذِي بِهِ يُشْرِكُونَ، وَالَّذِي تَشْمَئِزُّ قُلُوبُهُمْ حِينَ يُذْكَرُ وَحْدُهُ، وَتَسْتَبْشِرُ حِينَمَا تُذْكَرُ آلِهَتُهُمُ الْمُدَّعَاةُ. بَعْدَ هَذَا يَعُودُ إِلَى تَصْوِيرِ حَالِهِمُ الْعَجِيبِ. فَهُمْ يُنْكِرُونَ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ. فَأَمَّا حِينَ يُصِيبُهُمُ الضُّرُّ فَهُمْ لَا يَتَوَجَّهُونَ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ ضَارِعِينَ مُنِيبِينَ. حَتَّى إِذَا تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ وَأَنْعَمَ رَاحُوا يَتَبَجَّحُونَ وَيُنْكِرُونَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=49فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا. ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا، قَالَ: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ. بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ..
وَالْآيَةُ تُصَوِّرُ نَمُوذَجًا مُكَرَّرًا لِلْإِنْسَانِ، مَا لَمْ تَهْتَدِ فِطْرَتُهُ إِلَى الْحَقِّ، وَتَرْجِعْ إِلَى رَبِّهَا الْوَاحِدِ، وَتَعْرِفِ الطَّرِيقَ إِلَيْهِ، فَلَا تَضِلُّ عَنْهُ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ.
إِنَّ الضُّرَّ يُسْقِطُ عَنِ الْفِطْرَةِ رُكَامَ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ، وَيُعَرِّيهَا مِنَ الْعَوَامِلِ الْمُصْطَنَعَةِ الَّتِي تَحْجُبُ عَنْهَا الْحَقَّ الْكَامِنَ فِيهَا وَفِي ضَمِيرِ هَذَا الْوُجُودِ. فَعِنْدَئِذٍ تَرَى الَّهَ وَتَعْرِفُهُ وَتَتَّجِهُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ. حَتَّى إِذَا مَرَّتِ الشِّدَّةُ وَجَاءَ الرَّخَاءُ، نَسِيَ هَذَا الْإِنْسَانُ مَا قَالَهُ فِي الضَّرَّاءِ، وَانْحَرَفَتْ فِطْرَتُهُ بِتَأْثِيرِ الْأَهْوَاءِ. وَقَالَ عَنِ النِّعْمَةِ وَالرِّزْقِ وَالْفَضْلِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=49إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ .. قَالَهَا قَارُونُ، وَقَالَهَا كُلُّ مَخْدُوعٍ بِعِلْمٍ أَوْ صَنْعَةٍ أَوْ حِيلَةٍ يُعَلِّلُ بِهَا مَا اتَّفَقَ لَهُ مِنْ مَالٍ أَوْ سُلْطَانٍ. غَافِلًا عَنْ مَصْدَرِ النِّعْمَةِ، وَوَاهِبِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَمُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ، وَمُقَدِّرِ الْأَرْزَاقِ.
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=49بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ. وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ..
هِيَ فِتْنَةٌ لِلِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ؛ لِيَتَبَيَّنَ إِنْ كَانَ سَيَشْكُرُ أَوْ سَيَكْفُرُ; وَإِنْ كَانَ سَيُصْلِحُ بِهَا أَمْ سَيَفْسَدُ; وَإِنْ كَانَ سَيَعْرِفُ الطَّرِيقَ أَمْ يَجْنَحُ إِلَى الضَّلَالِ.
[ ص: 3057 ] وَالْقُرْآنُ - رَحْمَةٌ بِالْعِبَادِ - يَكْشِفْ لَهُمْ عَنِ السِّرِّ، وَيُنَبِّهُهُمْ إِلَى الْخَطَرِ، وَيُحَذِّرُهُمُ الْفِتْنَةَ. فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ وَلَا عُذْرَ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ.
وَهُوَ يَلْمِسُ قُلُوبَهُمْ بِعَرْضِ مُصَارِعِ الْغَابِرِينَ قَبْلَهُمْ. مَصَارِعِهِمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الضَّالَّةِ الَّتِي يَقُولُهَا قَائِلُهُمْ:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=49إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=50قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=51فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا. وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ..
هِيَ ذَاتُهَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ الضَّالَّةُ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَانْتَهَتْ بِهِمْ إِلَى السُّوءِ وَالْوَبَالِ. وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ عِلْمُهُمْ وَلَا مَالُهُمْ وَلَا قُوَّتُهُمْ شَيْئًا. وَهَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَ الْغَابِرِينَ. فَسُنَّةُ اللَّهِ لَا تَتَبَدَّلُ
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=51وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ .. فَاللَّهُ لَا يُعْجِزُهُ خَلْقُهُ الضِّعَافُ الْمَهَازِيلُ!
فَأَمَّا مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنْ نِعْمَةٍ، وَمَا وَهَبَهُمْ مِنْ رِزْقٍ، فَإِنَّهُ يَتْبَعُ إِرَادَةَ اللَّهِ وَفْقَ حِكْمَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ فِي بَسْطِ الرِّزْقِ وَقَبْضِهِ، لِيَبْتَلِيَ عِبَادَهُ، وَلِيُنَفِّذَ مَشِيئَتَهُ كَمَا يُرِيدُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=52أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ؟ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .. فَلَا يَجْعَلُوا آيَاتِ اللَّهِ سَبَبًا فِي الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ. وَهِيَ جَاءَتْ لِلْهُدَى وَالْإِيمَانِ.