nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=56nindex.php?page=treesubj&link=29705_28678_28749_30549_30179_28902_28903_29011إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير (56)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=57لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون (57)
[ ص: 3088 ] nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=58وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون (58)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=59إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (59)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=60وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (60)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=61الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (61)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=62ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون (62)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=63كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون (63)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=64الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين (64)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=65هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين (65)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=66قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين (66)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=67هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون (67)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=68هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (68)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=69ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون (69)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=70الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا .به رسلنا فسوف يعلمون (70)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=71إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون (71)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=72في الحميم ثم في النار يسجرون (72)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=73ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون (73)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=74من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعو من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين (74)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=75ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون (75)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=76ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين (76)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=77فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون (77)
هذا الشوط متصل تمام الاتصال بالشوط الذي قبله، وهو استمرار للفقرة الأخيرة من الدرس الماضي. وتكملة لتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - للصبر على التكذيب والإيذاء والصد عن الحق والتبجح بالباطل. فبعد هذا التوجيه يكشف عن علة المجادلة في آيات الله بغير حجة ولا برهان. إنه الكبر الذي يمنع أصحابه
[ ص: 3089 ] من التسليم بالحق وهم أصغر وأضأل من هذا الكبر الذي يحيك في الصدور.
ومن ثم يجيء التنبيه إلى عظمة هذا الكون الذي خلقه الله، وصغر الناس جميعا بالقياس إلى السماوات والأرض. ويمضي الدرس يعرض بعض الآيات الكونية. وفضل الله في تسخير بعضها للناس وهم أصغر منها وأضأل. ويشير إلى فضل الله على الناس في ذوات أنفسهم. وهذه وتلك تشهد بوحدانية المبدع الذي يشركون به. ويوجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الجهر بكلمة التوحيد والإعراض عما يعبدون من دون الله. وينتهي الشوط بمشهد عنيف من مشاهد القيامة يسألون فيه عما يشركون سؤال التبكيت والترذيل. ويختم كما ختم الشوط الماضي. بتوجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبر سواء أبقاه الله ليشهد بعض ما وعدهم، أم توفاه إليه قبل مجيء وعد الله. فالأمر لله. وهم إليه راجعون على كل حال.
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=56إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم، إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه. فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير. nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=57لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=58وما يستوي الأعمى والبصير، والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء، قليلا ما تتذكرون. nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=59إن الساعة لآتية لا ريب فيها، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون. nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=60وقال ربكم: ادعوني أستجب لكم، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ..
إن هذا المخلوق الإنساني لينسى نفسه في أحيان كثيرة، ينسى أنه كائن صغير ضعيف، يستمد القوة لا من ذاته، ولكن من اتصاله بمصدر القوة الأول. من الله. فيقطع اتصاله هذا ثم يروح ينتفخ، ويورم، ويتشامخ، ويتعالى. يحيك في صدره الكبر. يستمده من الشيطان الذي هلك بهذا الكبر. ثم سلط على الإنسان فأتاه من قبله!
وإنه ليجادل في آيات الله ويكابر. وهي ظاهرة ناطقة معبرة للفطرة بلسان الفطرة. وهو يزعم لنفسه وللناس أنه إنما يناقش لأنه لم يقتنع، ويجادل لأنه غير مستيقن. والله العليم بعباده، السميع البصير المطلع على السرائر، يقرر أنه الكبر. والكبر وحده. هو الذي يحيك في الصدر. وهو الذي يدعو صاحبه إلى الجدال فيما لا جدال فيه. الكبر والتطاول إلى ما هو أكبر من حقيقته. ومحاولة أخذ مكان ليس له، ولا تؤهله له حقيقته. وليست له حجة يجادل بها، ولا برهان يصدع به. إنما هو ذلك الكبر وحده:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=56إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم، إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ..
ولو أدرك الإنسان حقيقته وحقيقة هذا الوجود. ولو عرف دوره فأتقنه ولم يحاول أن يتجاوزه. ولو اطمأن إلى أنه كائن مما لا يحصى عدده من كائنات مسخرة بأمر خالق الوجود، وفق تقديره الذي لا يعلمه إلا هو، وأن دوره مقدر بحسب حقيقته في كيان هذا الوجود.. لو أدرك هذا كله لاطمأن واستراح، ولتطامن كذلك وتواضع، وعاش في سلام مع نفسه ومع الكون حوله. وفي استسلام لله وإسلام.
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=56فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير ..
والاستعاذة بالله في مواجهة الكبر توحي باستبشاعه واستفظاعه. فالإنسان إنما يستعيذ بالله من الشيء الفظيع القبيح، الذي يتوقع منه الشر والأذى.. وفي الكبر هذا كله. وهو يتعب صاحبه ويتعب الناس من حوله; وهو يؤذي الصدر الذي يحيك فيه ويؤذي صدور الآخرين. فهو شر يستحق الاستعاذة بالله منه..
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=56إنه هو [ ص: 3090 ] السميع البصير .. الذي يسمع ويرى، والكبر الذميم يتمثل في حركة ترى وفي كلام يسمع. فهو يكل أمره إلى السميع البصير يتولاه بما يراه.
ثم يكشف للإنسان عن وضعه الحقيقي في هذا الكون الكبير. وعن ضآلته بالقياس إلى بعض خلق الله الذي يراه الناس، ويدركون ضخامته بمجرد الرؤية، ويزيدون شعورا به حين يعلمون حقيقته:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=57لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس. ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
والسماوات والأرض معروضتان للإنسان يراهما، ويستطيع أن يقيس نفسه إليهما. ولكنه حين " يعلم " حقيقة النسب والأبعاد وحقيقة الأحجام والقوى، يطامن من كبريائه، ويتصاغر ويتضاءل حتى ليكاد يذوب من الشعور بالضآلة. إلا أن يذكر العنصر العلوي الذي أودعه الله إياه، والذي من أجله كرمه. فهو وحده الذي يمسك به أمام عظمة هذا الكون الهائل العظيم..
ولمحة خاطفة عن السماوات والأرض تكفي لهذا الإدراك.
هذه الأرض التي نحيا عليها تابع صغير من توابع الشمس تبلغ كتلتها ثلاثة من مليون من كتلة الشمس! ويبلغ حجمها أقل من واحد من مليون من حجم الشمس.
وهذه الشمس واحدة من نحو مائة مليون من الشموس في المجرة القريبة منا; والتي نحن منها. وقد كشف البشر - حتى اليوم - نحو مائة مليون من هذه المجرات! متناثرة في الفضاء الهائل من حولها تكاد تكون تائهة فيه!
والذي كشفه البشر جانب ضئيل صغير لا يكاد يذكر من بناء الكون! وهو - على ضآلته - هائل شاسع يدير الرؤوس مجرد تصوره. فالمسافة بيننا وبين الشمس نحو من ثلاثة وتسعين مليونا من الأميال. ذلك أنها رأس أسرة كوكبنا الأرضي الصغير. بل هي - على الأرجح - أم هذه الأرض الصغيرة. ولم تبعد أرضنا عن أحضان أمها بأكثر من هذه المسافة: ثلاثة وتسعين مليونا من الأميال!
أما المجرة التي تتبعها الشمس فقطرها نحو من مائة ألف مليون سنة.. ضوئية.. والسنة الضوئية تعني مسافة ست مائة مليون ميل! لأن سرعة الضوء هي ستة وثمانون ومائة ألف ميل في الثانية!
وأقرب المجرات الأخرى إلى مجرتنا تبعد عنا بنحو خمسين وسبعمائة ألف سنة ضوئية..!
ونذكر مرة أخرى أن هذه المسافات وهذه الأبعاد وهذه الأحجام هي التي استطاع علم البشر الضئيل أن يكشف عنها. وعلم البشر هذا يعترف أن ما كشفه قطاع صغير في هذا الكون العريض!
والله - سبحانه - يقول:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=57لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس. ولكن أكثر الناس لا يعلمون ..
وليس على قدرة الله أكبر ولا أصغر. ولا أصعب ولا أيسر. فهو خالق كل شيء بكلمة.. إنما هي الأشياء كما تبدو في طبيعتها، وكما يعرفها الناس ويقدرونها.. فأين الإنسان من هذا الكون الهائل؟ وأين يبلغ به كبره من هذا الخلق الكبير؟
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=58وما يستوي الأعمى والبصير ..
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=58والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء .. فالبصير يرى ويعلم ويعرف قدره وقيمته، ولا يتطاول، ولا ينتفخ ولا يتكبر لأنه يرى ويبصر. والأعمى لا يرى ولا يعرف مكانه، ولا نسبته إلى ما حوله، فيخطئ تقدير نفسه وتقدير ما يحيط به، ويتخبط هنا وهنالك من سوء التقدير.. وكذلك لا يستوي الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمسيء. إن أولئك أبصروا وعرفوا فهم يحسنون التقدير.
[ ص: 3091 ] وهذا عمى وجهل فهو يسيء.. يسيء كل شيء. يسيء إلى نفسه، ويسيء إلى الناس. ويسيء قبل كل شيء إدراك قيمته وقيمة ما حوله. ويخطئ في قياس نفسه إلى ما حوله. فهو أعمى.. والعمى عمى القلوب!
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=58قليلا ما تتذكرون ..
ولو تذكرنا لعرفنا. فالأمر واضح قريب. لا يحتاج إلى أكثر من التذكر والتذكير..
ثم لو تذكرنا الآخرة، ووثقنا من مجيئها، وتصورنا موقفنا فيها، واستحضرنا مشهدنا بها:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=59إن الساعة لآتية لا ريب فيها، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ..
ومن ثم فهم يجادلون ويستكبرون، فلا يذعنون للحق، ولا يعرفون مكانهم الحق، فلا يتجاوزوه.
والتوجه إلى الله بالعبادة، ودعاؤه والتضرع إليه، مما يشفي الصدور من الكبر الذي تنتفخ به، فيدعوها إلى الجدال في آيات الله بغير حجة ولا برهان. والله - سبحانه - يفتح لنا أبوابه لنتوجه إليه وندعوه، ويعلن لنا ما كتبه على نفسه من الاستجابة لمن يدعوه; وينذر الذين يستكبرون عن عبادته بما ينتظرهم من ذل وتنكيس في النار:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=60وقال ربكم: ادعوني أستجب لكم. إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ..
وللدعاء أدب لا بد أن يراعى. إنه إخلاص القلب لله. والثقة بالاستجابة مع عدم اقتراح صورة معينة لها، أو تخصيص وقت أو ظرف، فهذا الاقتراح ليس من أدب السؤال. والاعتقاد بأن التوجه للدعاء توفيق من الله، والاستجابة فضل آخر. وقد كان
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر - رضي الله عنه - يقول: " أنا لا أحمل هم الإجابة إنما أحمل هم الدعاء. فإذا ألهمت الدعاء كانت الإجابة معه " وهي كلمة القلب العارف، الذي يدرك أن الله حين يقدر الاستجابة يقدر معها الدعاء. فهما - حين يوفق الله - متوافقان متطابقان.
فأما لذين يستكبرون عن التوجه لله فجزاؤهم الحق أن يوجهوا أذلاء صاغرين لجهنم! وهذه نهاية الكبر الذي تنتفخ به قلوب وصدور في هذه الأرض الصغيرة، وفي هذه الحياة الرخيصة، وتنسى ضخامة خلق الله. فضلا على نسيانها عظمة الله. ونسيانها للآخرة وهي آتية لا ريب فيها. ونسيانها للموقف الذليل في الآخرة بعد النفخة والاستكبار.
ولما ذكر الذين يستكبرون عن عبادة الله، شرع يعرض بعض نعم الله على الناس، تلك النعم التي توحي بعظمته تعالى والتي لا يشكرون الله عليها، بل يستكبرون عن عبادته ولتوجه إليه:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=61الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا. إن الله لذو فضل على الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون. nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=62ذلكم الله ربكم خالق كل شيء، لا إله إلا هو، فأنى تؤفكون؟ nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=63كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون. nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=64الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء، وصوركم فأحسن صوركم، ورزقكم من الطيبات. ذلكم الله ربكم، فتبارك الله رب العالمين. nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=65هو الحي، لا إله إلا هو، فادعوه مخلصين له الدين، الحمد لله رب العالمين ..
والليل والنهار ظاهرتان كونيتان. والأرض والسماء خلقان كونيان كذلك. وهي تذكر مع تصوير الله للبشر وإحسان صورهم، ومع رزق الله لهم من الطيبات.. وتعرض كلها في معرض نعم الله وفضله على الناس، وفي معرض الوحدانية وإخلاص الدين لله. فيدل هذا على ارتباط هذه الظواهر والخلائق والمعاني، وعلى وجود
[ ص: 3092 ] الصلة بينها، ووجوب تدبرها في محيطها الواسع، وملاحظة الارتباط بينها والاتفاق.
إن بناء الكون على القاعدة التي بناه الله عليها، ثم سيره وفق الناموس الذي قدره الله له، هو الذي سمح بوجود الحياة في هذه الأرض ونموها وارتقائها، كما أنه هو الذي سمح بوجود الحياة الإنسانية في شكلها الذي نعهده، ووفق حاجات هذا الإنسان التي يتطلبها تكوينه وفطرته. وهو الذي جعل الليل مسكنا له وراحة واستجماما، والنهار مبصرا معينا على الرؤية والحركة، والأرض قرارا صالحا للحياة والنشاط، والسماء بناء متماسكا لا يتداعى ولا ينهار، ولا تختل نسبه وأبعاده - ولو اختلت لتعذر وجود الإنسان على هذه الأرض وربما وجود الحياة! وهو الذي سمح بأن تكون هناك طيبات من الرزق تنشأ من الأرض وتهبط من السماء فيستمتع بها هذا الإنسان، الذي صوره الله فأحسن صورته، وأودعه الخصائص والاستعدادات المتسقة مع هذا الكون، الصالحة للظروف التي يعيش فيها مرتبطا بهذا الوجود الكبير.. فهذه كلها أمور مرتبطة متناسقة كما ترى; ومن ثم يذكرها القرآن في مكان واحد، بهذا الترابط. ويتخذ منها برهانه على وحدانية الخالق. ويوجه في ظلها القلب البشري إلى دعوة الله وحده، مخلصا له الدين، هاتفا: الحمد لله رب العالمين. ويقرر أن الذي يصنع هذا ويبدعه بهذا التناسق هو الذي يليق أن يكون إلها. وهو الله رب العالمين. فكيف يصرف الناس عن هذا الحق الواضح المبين؟
ونذكر هنا لمحات خاطفة تشير إلى بعض نواحي الارتباط في تصميم هذا الكون وعلاقته بحياة الإنسان.. مجرد لمحات تسير مع اتجاه هذه الإشارة المجملة في كتاب الله..
" لو كانت الأرض لا تدور حول نفسها في مواجهة الشمس ما تعاقب الليل والنهار" ..
" لو دارت الأرض حول نفسها أسرع مما تدور لتناثرت المنازل، وتفككت الأرض، وتناثرت هي الأخرى في الفضاء " ..
" لو دارت الأرض حول نفسها أبطأ مما تدور لهلك الناس من حر ومن برد. وسرعة دوران الأرض حول نفسها، هذه السرعة القائمة الكائنة اليوم، هي سرعة توافق ما على الأرض من حياة حيوانية نباتية بأوسع معانيها " .
" لولا دوران الأرض حول نفسها لفرغت البحار والمحيطات من مائها " .
" ماذا يحدث لو استقام محور الأرض، وجرت الأرض في مدارها حول الشمس في دائرة الشمس مركزها؟ إذن لاختفت الفصول، ولم يدر الناس ما صيف وما شتاء، وما ربيع وما خريف " .
" لو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي بمقدار بضعة أقدام، لامتص ثاني أكسيد الكربون الأكسجين. ولما أمكن وجود حياة النبات " .
" ولو كان الهواء أرفع كثيرا مما هو فإن بعض الشهب التي تحترق الآن بالملايين في الهواء الخارجي كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الأرضية، وهي تسير بسرعة تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميلا في الثانية. وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للاحتراق. ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لارتطمت كلها بالأرض ولكانت العاقبة مروعة. أما الإنسان فإن اصطدامه بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة كان يمزقه إربا من مجرد حرارة مروره.
" لو كان الأوكسجين بنسبة 50 في المائة مثلا أو أكثر في الهواء بدلا من 21 في المائة فإن جميع المواد القابلة
[ ص: 3093 ] للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال. لدرجة أن أول شرارة من البرق تصيب شجرة لا بد أن تلهب الغابة حتى لتكاد تنفجر. ولو أن نسبة الأوكسجين في الهواء قد هبطت إلى 10 في المائة أو أقل فإن الحياة ربما طابقت نفسها عليها في خلال الدهور. ولكن في هذه الحالة كان القليل من عناصر المدنية التي ألفها الإنسان - كالنار مثلا - تتوافر له " .
وهناك آلاف الموافقات في تصميم هذا الكون لو اختل واحد منها أدنى اختلال ما كانت الحياة في صورتها هذه التي نعرفها، موافقة هكذا لحياة الإنسان.
فأما الإنسان ذاته فمن حسن صورته هذه الهيئة المتفردة بين سائر الأحياء; وهذا الاكتمال من ناحية الأجهزة لأداء وظائفه جميعها في يسر ودقة; وهذا التوافق بين تكوينه والظروف الكونية العامة التي تسمح له بالوجود والحركة في هذا الوسط الكوني كما هو كائن; وذلك كله فوق خاصيته الكبرى التي جعلت منه خليفة في الأرض; مجهزا بأداة الخلافة الأولى: العقل والاتصال الروحي بما وراء الأشكال والأعراض.
ولو رحنا نبحث دقة التكوين الإنساني وتناسق أجزائه ووظائفه - بوصفه داخلة في قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=64وصوركم فأحسن صوركم - لوقفنا أمام كل عضو صغير، بل أمام كل خلية مفردة، في هذا الكيان الدقيق العجيب.
ونضرب مثلا لهذه الدقة العجيبة فك الإنسان ووضع الأسنان فيه من الناحية الآلية البحتة. إن هذا الفك من الدقة بحيث إن بروز واحد على عشرة من المليمتر في اللثة أو في اللسان يزحم اللثة واللسان; وبروز مثل هذا الحجم في ضرس أو سن يجعله يصطك بما يقابله ويحتك! ووجود ورقة كورقة السيجارة بين الفكين العلوي والسفلي يجعلها تتأثر بضغط الفكين عليها فتظهر فيها علامات الضغط لأنها من الدقة بحيث يلتقيان تماما ليمضغ الفك ويطحن ما هو في سمك ورقة السيجارة!
ثم.. إن هذا الإنسان بتكوينه هذا مجهز ليعيش في هذا الكون.. عينه هذه مقيسة على الذبذبات الضوئية التي تقتضي وظيفته في الأرض أن يراها. وأذنه تلك مقيسة على الذبذبات الصوتية التي تقتضي وظيفته في الأرض أن يسمعها. وكل حاسة فيه أو جارحة مصممة وفق الوسط المهيإ لحياته، ومجهزة كذلك بالقدرة على التكيف المحدود عند تغير بعض الظروف.
إنه مخلوق لهذا الوسط. ليعيش فيه، ويتأثر به، ويؤثر فيه. وهناك ارتباط وثيق بين تصميم هذا الوسط وتكوين هذا الإنسان. وتصوير الإنسان على هذه الصورة ذو علاقة بوسطه. أي بالأرض والسماء. ومن ثم يذكر القرآن صورته في نفس الآية التي يذكر فيها الأرض والسماء.. ألا إنه الإعجاز في هذا القرآن..
وتكفي هذه الإشارات بهذا الاختصار إلى دقة صنع الله وتناسقه بين الكون والإنسان.
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=56nindex.php?page=treesubj&link=29705_28678_28749_30549_30179_28902_28903_29011إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنَّ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=57لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57)
[ ص: 3088 ] nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=58وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=59إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=60وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=61اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهُ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=62ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=63كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=64اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=65هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=66قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=67هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مِنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=68هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=69أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=70الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا .بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=71إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=72فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=73ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=74مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهِ الْكَافِرِينَ (74)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=75ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=76ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=77فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)
هَذَا الشَّوْطُ مُتَّصِلٌ تَمَامَ الِاتِّصَالِ بِالشَّوْطِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ اسْتِمْرَارٌ لِلْفَقَرَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الدَّرْسِ الْمَاضِي. وَتَكْمِلَةٌ لِتَوْجِيهِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلصَّبْرِ عَلَى التَّكْذِيبِ وَالْإِيذَاءِ وَالصَّدِّ عَنِ الْحَقِّ وَالتَّبَجُّحِ بِالْبَاطِلِ. فَبَعْدَ هَذَا التَّوْجِيهِ يَكْشِفُ عَنْ عِلَّةِ الْمُجَادَلَةِ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ. إِنَّهُ الْكِبْرُ الَّذِي يَمْنَعُ أَصْحَابَهُ
[ ص: 3089 ] مِنَ التَّسْلِيمِ بِالْحَقِّ وَهُمْ أَصْغَرُ وَأَضْأَلُ مِنْ هَذَا الْكِبْرِ الَّذِي يَحِيكُ فِي الصُّدُورِ.
وَمِنْ ثَمَّ يَجِيءُ التَّنْبِيهُ إِلَى عَظَمَةِ هَذَا الْكَوْنِ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ، وَصَغُرَ النَّاسُ جَمِيعًا بِالْقِيَاسِ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَيَمْضِي الدَّرْسُ يَعْرِضُ بَعْضَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ. وَفَضْلُ اللَّهِ فِي تَسْخِيرِ بَعْضِهَا لِلنَّاسِ وَهُمْ أَصْغَرُ مِنْهَا وَأَضْأَلُ. وَيُشِيرُ إِلَى فَضْلِ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ فِي ذَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ. وَهَذِهِ وَتِلْكَ تَشْهَدُ بِوَحْدَانِيَّةِ الْمُبْدِعِ الَّذِي يُشْرِكُونَ بِهِ. وَيُوَجِّهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْجَهْرِ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَيَنْتَهِي الشَّوْطُ بِمَشْهَدٍ عَنِيفٍ مِنْ مَشَاهِدِ الْقِيَامَةِ يَسْأَلُونَ فِيهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ سُؤَالَ التَّبْكِيتِ وَالتَّرْذِيلِ. وَيَخْتِمُ كَمَا خَتَمَ الشَّوْطَ الْمَاضِيَ. بِتَوْجِيهِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الصَّبْرِ سَوَاءٌ أَبْقَاهُ اللَّهُ لِيَشْهَدَ بَعْضَ مَا وَعَدَهُمْ، أَمْ تَوَفَّاهُ إِلَيْهِ قَبْلَ مَجِيءِ وَعْدِ اللَّهِ. فَالْأَمْرُ لِلَّهِ. وَهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=56إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ، إِنَّ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=57لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=58وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ، قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=59إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=60وَقَالَ رَبُّكُمُ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ..
إِنَّ هَذَا الْمَخْلُوقَ الْإِنْسَانِيَّ لَيَنْسَى نَفْسَهُ فِي أَحْيَانٍ كَثِيرَةٍ، يَنْسَى أَنَّهُ كَائِنٌ صَغِيرٌ ضَعِيفٌ، يَسْتَمِدُّ الْقُوَّةَ لَا مِنْ ذَاتِهِ، وَلَكِنْ مِنَ اتِّصَالِهِ بِمَصْدَرِ الْقُوَّةِ الْأَوَّلِ. مِنَ اللَّهِ. فَيَقْطَعُ اتِّصَالَهُ هَذَا ثُمَّ يَرُوحُ يَنْتَفِخُ، وَيُوَرِّمُ، وَيَتَشَامَخُ، وَيَتَعَالَى. يَحِيكُ فِي صَدْرِهِ الْكِبْرُ. يَسْتَمِدُّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ الَّذِي هَلَكَ بِهَذَا الْكِبْرِ. ثُمَّ سُلِّطَ عَلَى الْإِنْسَانِ فَأَتَاهُ مِنْ قِبَلِهِ!
وَإِنَّهُ لِيُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَيُكَابِرُ. وَهِيَ ظَاهِرَةٌ نَاطِقَةٌ مُعَبِّرَةٌ لِلْفِطْرَةِ بِلِسَانِ الْفِطْرَةِ. وَهُوَ يَزْعُمُ لِنَفْسِهِ وَلِلنَّاسِ أَنَّهُ إِنَّمَا يُنَاقِشُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَنِعْ، وَيُجَادِلْ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَيْقِنٍ. وَاللَّهُ الْعَلِيمُ بِعِبَادِهِ، السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْمُطَّلِعُ عَلَى السَّرَائِرِ، يُقَرِّرُ أَنَّهُ الْكِبْرُ. وَالْكِبْرُ وَحْدُهُ. هُوَ الَّذِي يَحِيكُ فِي الصَّدْرِ. وَهُوَ الَّذِي يَدْعُو صَاحِبَهُ إِلَى الْجِدَالِ فِيمَا لَا جِدَالَ فِيهِ. الْكِبْرُ وَالتَّطَاوُلُ إِلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ حَقِيقَتِهِ. وَمُحَاوَلَةُ أَخْذِ مَكَانٍ لَيْسَ لَهُ، وَلَا تُؤَهِّلُهُ لَهُ حَقِيقَتُهُ. وَلَيْسَتْ لَهُ حُجَّةٌ يُجَادِلُ بِهَا، وَلَا بُرْهَانٌ يَصْدَعُ بِهِ. إِنَّمَا هُوَ ذَلِكَ الْكِبْرُ وَحْدُهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=56إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ، إِنَّ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ ..
وَلَوْ أَدْرَكَ الْإِنْسَانُ حَقِيقَتَهُ وَحَقِيقَةَ هَذَا الْوُجُودِ. وَلَوْ عَرَفَ دَوْرَهُ فَأَتْقَنَهُ وَلَمْ يُحَاوِلْ أَنْ يَتَجَاوَزَهُ. وَلَوِ اطْمَأَنَّ إِلَى أَنَّهُ كَائِنٌ مِمَّا لَا يُحْصَى عَدَدُهُ مِنْ كَائِنَاتٍ مُسَخَّرَةٍ بِأَمْرِ خَالِقِ الْوُجُودِ، وَفْقَ تَقْدِيرِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّ دَوْرَهُ مُقَدَّرٌ بِحَسَبَ حَقِيقَتِهِ فِي كِيَانِ هَذَا الْوُجُودِ.. لَوْ أَدْرَكَ هَذَا كُلَّهُ لَاطْمَأَنَّ وَاسْتَرَاحَ، وَلَتَطَامَنَ كَذَلِكَ وَتَوَاضَعَ، وَعَاشَ فِي سَلَامٍ مَعَ نَفْسِهِ وَمَعَ الْكَوْنِ حَوْلَهُ. وَفِي اسْتِسْلَامٍ لِلَّهِ وَإِسْلَامٍ.
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=56فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ..
وَالِاسْتِعَاذَةُ بِاللَّهِ فِي مُوَاجَهَةِ الْكِبْرِ تُوحِي بِاسْتِبْشَاعِهِ وَاسْتِفْظَاعِهِ. فَالْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْءِ الْفَظِيعِ الْقَبِيحِ، الَّذِي يَتَوَقَّعُ مِنْهُ الشَّرُّ وَالْأَذَى.. وَفِي الْكِبْرِ هَذَا كُلُّهُ. وَهُوَ يُتْعِبُ صَاحِبَهُ وَيُتْعِبُ النَّاسَ مِنْ حَوْلِهِ; وَهُوَ يُؤْذِي الصَّدْرَ الَّذِي يَحِيكُ فِيهِ وَيُؤْذِي صُدُورَ الْآخَرِينَ. فَهُوَ شَرٌّ يَسْتَحِقُّ الِاسْتِعَاذَةَ بِاللَّهِ مِنْهُ..
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=56إِنَّهُ هُوَ [ ص: 3090 ] السَّمِيعُ الْبَصِيرُ .. الَّذِي يَسْمَعُ وَيَرَى، وَالْكِبْرُ الذَّمِيمُ يَتَمَثَّلُ فِي حَرَكَةٍ تُرَى وَفِي كَلَامٍ يُسْمَعُ. فَهُوَ يَكِلُ أَمْرَهُ إِلَى السَّمِيعِ الْبَصِيرِ يَتَوَلَّاهُ بِمَا يَرَاهُ.
ثُمَّ يَكْشِفُ لِلْإِنْسَانِ عَنْ وَضْعِهِ الْحَقِيقِيِّ فِي هَذَا الْكَوْنِ الْكَبِيرِ. وَعَنْ ضَآلَتِهِ بِالْقِيَاسِ إِلَى بَعْضِ خَلْقِ اللَّهِ الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ، وَيُدْرِكُونَ ضَخَامَتَهُ بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَةِ، وَيَزِيدُونَ شُعُورًا بِهِ حِينَ يَعْلَمُونَ حَقِيقَتَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=57لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ .
وَالسَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ مَعْرُوضَتَانِ لِلْإِنْسَانِ يَرَاهُمَا، وَيَسْتَطِيعُ أَنْ يَقِيسَ نَفْسَهُ إِلَيْهِمَا. وَلَكِنَّهُ حِينَ " يَعْلَمُ " حَقِيقَةَ النَّسَبِ وَالْأَبْعَادِ وَحَقِيقَةَ الْأَحْجَامِ وَالْقُوَى، يُطَامِنُ مِنْ كِبْرِيَائِهِ، وَيَتَصَاغَرُ وَيَتَضَاءَلُ حَتَّى لَيَكَادُ يَذُوبُ مِنَ الشُّعُورِ بِالضَّآلَةِ. إِلَّا أَنْ يَذْكُرَ الْعُنْصُرَ الْعُلْوِيَّ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، وَالَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كَرَّمَهُ. فَهُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يُمْسِكُ بِهِ أَمَامَ عَظَمَةِ هَذَا الْكَوْنِ الْهَائِلِ الْعَظِيمِ..
وَلَمْحَةٍ خَاطِفَةٍ عَنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ تَكْفِي لِهَذَا الْإِدْرَاكِ.
هَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي نَحْيَا عَلَيْهَا تَابِعٌ صَغِيرٌ مِنْ تَوَابِعِ الشَّمْسِ تَبْلُغُ كُتْلَتُهَا ثَلَاثَةً مِنْ مِلْيُونٍ مِنْ كُتْلَةِ الشَّمْسِ! وَيَبْلُغُ حَجْمُهَا أَقَلَّ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ مِلْيُونٍ مِنْ حَجْمِ الشَّمْسِ.
وَهَذِهِ الشَّمْسُ وَاحِدَةٌ مِنْ نَحْوِ مِائَةِ مِلْيُونٍ مِنَ الشُّمُوسِ فِي الْمَجَرَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنَّا; وَالَّتِي نَحْنُ مِنْهَا. وَقَدْ كَشَفَ الْبَشَرُ - حَتَّى الْيَوْمَ - نَحْوَ مِائَةِ مِلْيُونٍ مِنْ هَذِهِ الْمَجَرَّاتِ! مُتَنَاثِرَةً فِي الْفَضَاءِ الْهَائِلِ مِنْ حَوْلِهَا تَكَادُ تَكُونُ تَائِهَةً فِيهِ!
وَالَّذِي كَشَفَهُ الْبَشَرُ جَانِبٌ ضَئِيلٌ صَغِيرٌ لَا يَكَادُ يُذْكَرُ مِنْ بِنَاءِ الْكَوْنِ! وَهُوَ - عَلَى ضَآلَتِهِ - هَائِلٌ شَاسِعٌ يُدِيرُ الرُّؤُوسَ مُجَرَّدَ تَصَوُّرِهِ. فَالْمَسَافَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّمْسِ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَتِسْعِينَ مِلْيُونًا مِنَ الْأَمْيَالِ. ذَلِكَ أَنَّهَا رَأْسُ أُسْرَةِ كَوْكَبِنَا الْأَرْضِيِّ الصَّغِيرِ. بَلْ هِيَ - عَلَى الْأَرْجَحِ - أَمْ هَذِهِ الْأَرْضُ الصَّغِيرَةُ. وَلَمْ تَبْعُدْ أَرْضُنَا عَنْ أَحْضَانِ أُمِّهَا بِأَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْمَسَافَةِ: ثَلَاثَةٍ وَتِسْعِينَ مِلْيُونًا مِنَ الْأَمْيَالِ!
أَمَّا الْمَجَرَّةُ الَّتِي تَتْبَعُهَا الشَّمْسُ فَقُطْرُهَا نَحْوٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ مِلْيُونِ سَنَةٍ.. ضَوْئِيَّةٍ.. وَالسَّنَةُ الضَّوْئِيَّةُ تَعْنِي مَسَافَةَ سِتِّ مِائَةِ مِلْيُونِ مِيلٍ! لِأَنَّ سُرْعَةَ الضَّوْءِ هِيَ سِتَّةٌ وَثَمَانُونَ وَمِائَةُ أَلْفِ مِيلٍ فِي الثَّانِيَةِ!
وَأَقْرَبُ الْمَجَرَّاتِ الْأُخْرَى إِلَى مَجَرَّتِنَا تَبْعُدُ عَنَّا بِنَحْوِ خَمْسِينَ وَسَبْعمِائَةِ أَلْفِ سَنَةٍ ضَوْئِيَّةٍ..!
وَنَذْكُرُ مَرَّةً أُخْرَى أَنَّ هَذِهِ الْمَسَافَاتِ وَهَذِهِ الْأَبْعَادَ وَهَذِهِ الْأَحْجَامَ هِيَ الَّتِي اسْتَطَاعَ عِلْمُ الْبَشَرِ الضَّئِيلُ أَنْ يَكْشِفَ عَنْهَا. وَعِلْمُ الْبَشَرِ هَذَا يَعْتَرِفُ أَنَّ مَا كَشَفَهُ قِطَاعٌ صَغِيرٌ فِي هَذَا الْكَوْنِ الْعَرِيضِ!
وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ - يَقُولُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=57لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ..
وَلَيْسَ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ أَكْبَرُ وَلَا أَصْغَرُ. وَلَا أَصْعَبُ وَلَا أَيْسَرُ. فَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِكَلِمَةٍ.. إِنَّمَا هِيَ الْأَشْيَاءُ كَمَا تَبْدُو فِي طَبِيعَتِهَا، وَكَمَا يَعْرِفُهَا النَّاسُ وَيُقَدِّرُونَهَا.. فَأَيْنَ الْإِنْسَانُ مِنْ هَذَا الْكَوْنِ الْهَائِلِ؟ وَأَيْنَ يَبْلُغُ بِهِ كِبَرُهُ مِنْ هَذَا الْخَلْقِ الْكَبِيرِ؟
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=58وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=58وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ .. فَالْبَصِيرُ يَرَى وَيَعْلَمُ وَيَعْرِفُ قَدْرَهُ وَقِيمَتَهُ، وَلَا يَتَطَاوَلُ، وَلَا يَنْتَفِخُ وَلَا يَتَكَبَّرُ لِأَنَّهُ يَرَى وَيُبْصِرُ. وَالْأَعْمَى لَا يَرَى وَلَا يَعْرِفُ مَكَانَهُ، وَلَا نِسْبَتَهُ إِلَى مَا حَوْلَهُ، فَيُخْطِئُ تَقْدِيرَ نَفْسِهِ وَتَقْدِيرَ مَا يُحِيطُ بِهِ، وَيَتَخَبَّطُ هُنَا وَهُنَالِكَ مِنْ سُوءِ التَّقْدِيرِ.. وَكَذَلِكَ لَا يَسْتَوِي الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات وَالْمُسِيءُ. إِنَّ أُولَئِكَ أَبْصَرُوا وَعَرَفُوا فَهُمْ يُحْسِنُونَ التَّقْدِيرَ.
[ ص: 3091 ] وَهَذَا عَمًى وَجَهْلٌ فَهُوَ يُسِيءُ.. يُسِيءُ كُلَّ شَيْءٍ. يُسِيءُ إِلَى نَفْسِهِ، وَيُسِيءُ إِلَى النَّاسِ. وَيُسِيءُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ إِدْرَاكَ قِيمَتِهِ وَقِيمَةِ مَا حَوْلَهُ. وَيُخْطِئُ فِي قِيَاسِ نَفْسِهِ إِلَى مَا حَوْلَهُ. فَهُوَ أَعْمَى.. وَالْعَمَى عَمَى الْقُلُوبِ!
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=58قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ ..
وَلَوْ تَذَكَّرْنَا لَعَرَفْنَا. فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ قَرِيبٌ. لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَكْثَرِ مِنَ التَّذَكُّرِ وَالتَّذْكِيرِ..
ثُمَّ لَوْ تَذَكَّرْنَا الْآخِرَةَ، وَوَثِقْنَا مِنْ مَجِيئِهَا، وَتَصَوَّرْنَا مَوْقِفَنَا فِيهَا، وَاسْتَحْضَرْنَا مَشْهَدَنَا بِهَا:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=59إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ..
وَمِنْ ثَمَّ فَهُمَ يُجَادِلُونَ وَيَسْتَكْبِرُونَ، فَلَا يُذْعِنُونَ لِلْحَقِّ، وَلَا يَعْرِفُونَ مَكَانَهُمُ الْحَقَّ، فَلَا يَتَجَاوَزُوهُ.
وَالتَّوَجُّهُ إِلَى اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ، وَدُعَاؤُهُ وَالتَّضَرُّعُ إِلَيْهِ، مِمَّا يَشْفِي الصُّدُورَ مِنَ الْكِبْرِ الَّذِي تَنْتَفِخُ بِهِ، فَيَدْعُوهَا إِلَى الْجِدَالِ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ. وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ - يَفْتَحُ لَنَا أَبْوَابَهُ لِنَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَنَدْعُوَهُ، وَيُعْلِنُ لَنَا مَا كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الِاسْتِجَابَةِ لِمَنْ يَدْعُوهُ; وَيُنْذِرُ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ بِمَا يَنْتَظِرُهُمْ مَنْ ذُلٍّ وَتَنْكِيسٍ فِي النَّارِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=60وَقَالَ رَبُّكُمُ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ..
وَلِلدُّعَاءِ أَدَبٌ لَا بُدَّ أَنْ يُرَاعَى. إِنَّهُ إِخْلَاصُ الْقَلْبِ لِلَّهِ. وَالثِّقَةُ بِالِاسْتِجَابَةِ مَعَ عَدَمِ اقْتِرَاحِ صُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَهَا، أَوْ تَخْصِيصِ وَقْتٍ أَوْ ظَرْفٍ، فَهَذَا الِاقْتِرَاحُ لَيْسَ مِنْ أَدَبِ السُّؤَالِ. وَالِاعْتِقَادُ بِأَنَّ التَّوَجُّهَ لِلدُّعَاءِ تَوْفِيقٌ مِنَ اللَّهِ، وَالِاسْتِجَابَةُ فَضْلٌ آخَرُ. وَقَدْ كَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: " أَنَا لَا أَحْمِلُ هَمَّ الْإِجَابَةِ إِنَّمَا أَحْمِلُ هَمَّ الدُّعَاءِ. فَإِذَا أُلْهِمْتَ الدُّعَاءَ كَانَتِ الْإِجَابَةُ مَعَهُ " وَهِيَ كَلِمَةُ الْقَلْبِ الْعَارِفِ، الَّذِي يُدْرِكُ أَنَّ اللَّهَ حِينَ يُقَدِّرُ الِاسْتِجَابَةَ يُقَدِّرُ مَعَهَا الدُّعَاءَ. فَهُمَا - حِينَ يُوَفِّقُ اللَّهُ - مُتَوَافِقَانِ مُتَطَابِقَانِ.
فَأَمَّا لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنِ التَّوَجُّهِ لِلَّهِ فَجَزَاؤُهُمُ الْحَقُّ أَنْ يُوَجَّهُوا أَذِلَّاءَ صَاغِرِينَ لِجَهَنَّمَ! وَهَذِهِ نِهَايَةُ الْكِبْرِ الَّذِي تَنْتَفِخُ بِهِ قُلُوبٌ وَصُدُورٌ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الصَّغِيرَةِ، وَفِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الرَّخِيصَةِ، وَتَنْسَى ضَخَامَةَ خَلْقِ اللَّهِ. فَضْلًا عَلَى نِسْيَانِهَا عَظَمَةَ اللَّهِ. وَنِسْيَانِهَا لِلْآخِرَةِ وَهِيَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا. وَنِسْيَانُهَا لِلْمَوْقِفِ الذَّلِيلِ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ النَّفْخَةِ وَالِاسْتِكْبَارِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، شَرَعَ يَعْرِضُ بَعْضَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ، تِلْكَ النِّعَمُ الَّتِي تُوحِي بِعَظَمَتِهِ تَعَالَى وَالَّتِي لَا يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَيْهَا، بَلْ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=61اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا. إِنَّ اللَّهُ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=62ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، لا إِلَهَ إِلا هُوَ، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟ nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=63كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=64اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً، وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ. ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ. nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=65هُوَ الْحَيُّ، لا إِلَهَ إِلا هُوَ، فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ..
وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ظَاهِرَتَانِ كَوْنِيَّتَانِ. وَالْأَرْضُ وَالسَّمَاءُ خَلْقَانِ كَوْنِيَّانِ كَذَلِكَ. وَهِيَ تَذْكُرُ مَعَ تَصْوِيرِ اللَّهِ لِلْبَشَرِ وَإِحْسَانِ صُوَرِهِمْ، وَمَعَ رِزْقِ اللَّهِ لَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ.. وَتُعْرَضُ كُلُّهَا فِي مَعْرِضِ نِعَمِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ عَلَى النَّاسِ، وَفِي مَعْرِضِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ. فَيَدُلُّ هَذَا عَلَى ارْتِبَاطِ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ وَالْخَلَائِقِ وَالْمَعَانِي، وَعَلَى وُجُودِ
[ ص: 3092 ] الصِّلَةِ بَيْنَهَا، وَوُجُوبِ تَدَبُّرِهَا فِي مُحِيطِهَا الْوَاسِعِ، وَمُلَاحَظَةِ الِارْتِبَاطِ بَيْنَهَا وَالِاتِّفَاقِ.
إِنَّ بَنَّاءَ الْكَوْنِ عَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي بَنَاهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ سَيَّرَهُ وَفْقَ النَّامُوسِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهُ، هُوَ الَّذِي سَمَحَ بِوُجُودِ الْحَيَاةِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ وَنُمُوِّهَا وَارْتِقَائِهَا، كَمَا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَمَحَ بِوُجُودِ الْحَيَاةِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي شَكْلِهَا الَّذِي نَعْهَدُهُ، وَوَفْقَ حَاجَاتِ هَذَا الْإِنْسَانِ الَّتِي يَتَطَلَّبُهَا تَكْوِينُهُ وَفِطْرَتُهُ. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ مَسْكَنًا لَهُ وَرَاحَةً وَاسْتِجْمَامًا، وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا مُعِينًا عَلَى الرُّؤْيَةِ وَالْحَرَكَةِ، وَالْأَرْضَ قَرَارًا صَالِحًا لِلْحَيَاةِ وَالنَّشَاطِ، وَالسَّمَاءَ بِنَاءً مُتَمَاسِكًا لَا يَتَدَاعَى وَلَا يَنْهَارُ، وَلَا تَخْتَلُّ نِسَبُهُ وَأَبْعَادُهُ - وَلَوِ اخْتَلَّتْ لَتَعَذَّرَ وُجُودُ الْإِنْسَانِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ وَرُبَّمَا وُجُودُ الْحَيَاةِ! وَهُوَ الَّذِي سَمَحَ بِأَنْ تَكُونَ هُنَاكَ طَيِّبَاتٌ مِنَ الرِّزْقِ تَنْشَأُ مِنَ الْأَرْضِ وَتَهْبِطُ مِنَ السَّمَاءِ فَيَسْتَمْتِعُ بِهَا هَذَا الْإِنْسَانُ، الَّذِي صَوَّرَهُ اللَّهُ فَأَحْسَنَ صُورَتَهُ، وَأَوْدَعَهُ الْخَصَائِصَ وَالِاسْتِعْدَادَاتِ الْمُتَّسِقَةِ مَعَ هَذَا الْكَوْنِ، الصَّالِحَةِ لِلظُّرُوفِ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا مُرْتَبِطًا بِهَذَا الْوُجُودِ الْكَبِيرِ.. فَهَذِهِ كُلُّهَا أُمُورٌ مُرْتَبِطَةٌ مُتَنَاسِقَةٌ كَمَا تَرَى; وَمِنْ ثَمَّ يَذْكُرُهَا الْقُرْآنُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، بِهَذَا التَّرَابُطِ. وَيَتَّخِذُ مِنْهَا بُرْهَانَهُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الْخَالِقِ. وَيُوَجِّهُ فِي ظِلِّهَا الْقَلْبَ الْبَشَرِيَّ إِلَى دَعْوَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، هَاتِفًا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَيُقَرِّرُ أَنَّ الَّذِي يَصْنَعُ هَذَا وَيُبْدِعُهُ بِهَذَا التَّنَاسُقِ هُوَ الَّذِي يَلِيقُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا. وَهُوَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ. فَكَيْفَ يُصْرَفُ النَّاسُ عَنْ هَذَا الْحَقِّ الْوَاضِحِ الْمُبَيِّنِ؟
وَنَذْكُرُ هُنَا لَمَحَاتٍ خَاطِفَةٍ تُشِيرُ إِلَى بَعْضِ نَوَاحِي الِارْتِبَاطِ فِي تَصْمِيمِ هَذَا الْكَوْنِ وَعَلَاقَتِهِ بِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ.. مُجَرَّدُ لَمَحَاتٍ تَسِيرُ مَعَ اتِّجَاهِ هَذِهِ الْإِشَارَةِ الْمُجْمَلَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ..
" لَوْ كَانَتِ الْأَرْضُ لَا تَدُورُ حَوْلَ نَفْسِهَا فِي مُوَاجَهَةِ الشَّمْسِ مَا تَعَاقَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ" ..
" لَوْ دَارَتِ الْأَرْضُ حَوْلَ نَفْسِهَا أَسْرَعَ مِمَّا تَدُورُ لَتَنَاثَرَتِ الْمَنَازِلُ، وَتَفَكَّكَتِ الْأَرْضُ، وَتَنَاثَرَتْ هِيَ الْأُخْرَى فِي الْفَضَاءِ " ..
" لَوْ دَارَتِ الْأَرْضُ حَوْلَ نَفْسِهَا أَبْطَأَ مِمَّا تَدُورُ لَهَلَكَ النَّاسُ مِنْ حَرٍّ وَمِنْ بَرْدٍ. وَسُرْعَةُ دَوَرَانِ الْأَرْضِ حَوْلَ نَفْسِهَا، هَذِهِ السُّرْعَةُ الْقَائِمَةُ الْكَائِنَةُ الْيَوْمَ، هِيَ سُرْعَةٌ تُوَافِقُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ حَيَاةٍ حَيَوَانِيَّةٍ نَبَاتِيَّةٍ بِأَوْسَعَ مَعَانِيهَا " .
" لَوْلَا دَوَرَانُ الْأَرْضِ حَوْلَ نَفْسِهَا لَفَرَغَتِ الْبِحَارُ وَالْمُحِيطَاتُ مِنْ مَائِهَا " .
" مَاذَا يَحْدُثُ لَوِ اسْتَقَامَ مِحْوَرُ الْأَرْضِ، وَجَرَتِ الْأَرْضُ فِي مَدَارِهَا حَوْلَ الشَّمْسِ فِي دَائِرَةٍ الشَّمْسُ مَرْكَزُهَا؟ إِذَنْ لَاخْتَفَتِ الْفُصُولُ، وَلَمْ يَدْرِ النَّاسُ مَا صَيْفٌ وَمَا شِتَاءٌ، وَمَا رَبِيعٌ وَمَا خَرِيفٌ " .
" لَوْ كَانَتْ قِشْرَةُ الْأَرْضِ أَسْمَكُ مِمَّا هِيَ بِمِقْدَارِ بِضْعَةِ أَقْدَامٍ، لَامْتَصَّ ثَانِي أُكْسِيدِ الْكَرْبُونِ الْأُكْسُجِينَ. وَلَمَا أَمْكَنَ وُجُودُ حَيَاةِ النَّبَاتِ " .
" وَلَوْ كَانَ الْهَوَاءُ أَرْفَعُ كَثِيرًا مِمَّا هُوَ فَإِنَّ بَعْضَ الشُّهُبِ الَّتِي تَحْتَرِقُ الْآنَ بِالْمَلَايِينِ فِي الْهَوَاءِ الْخَارِجِيِّ كَانَتْ تَضْرِبُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ، وَهِيَ تَسِيرُ بِسُرْعَةٍ تَتَرَاوَحُ بَيْنَ سِتَّةِ أَمْيَالٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا فِي الثَّانِيَةِ. وَكَانَ فِي إِمْكَانِهَا أَنْ تُشْعِلَ كُلَّ شَيْءٍ قَابِلٍ لِلِاحْتِرَاقِ. وَلَوْ كَانَتْ تَسِيرُ بِبُطْءٍ رَصَاصَةُ الْبُنْدُقِيَّةِ لَارْتَطَمَتْ كُلُّهَا بِالْأَرْضِ وَلَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ مُرَوِّعَةً. أَمَّا الْإِنْسَانُ فَإِنَّ اصْطِدَامَهُ بِشِهَابٍ ضَئِيلٍ يَسِيرُ بِسُرْعَةٍ تَفُوقُ سُرْعَةَ الرَّصَاصَةِ تِسْعِينَ مَرَّةً كَانَ يُمَزِّقُهُ إِرَبًا مِنْ مُجَرَّدِ حَرَارَةِ مُرُورِهِ.
" لَوْ كَانَ الْأُوكُسِجِينُ بِنِسْبَةِ 50 فِي الْمِائَةِ مَثَلًا أَوْ أَكْثَرَ فِي الْهَوَاءِ بَدَلًا مِنْ 21 فِي الْمِائَةِ فَإِنَّ جَمِيعَ الْمَوَادِّ الْقَابِلَةِ
[ ص: 3093 ] لِلِاحْتِرَاقِ فِي الْعَالَمِ تُصْبِحُ عُرْضَةً لِلِاشْتِعَالِ. لِدَرَجَةِ أَنَّ أَوَّلَ شَرَارَةٍ مِنَ الْبَرْقِ تُصِيبُ شَجَرَةً لَا بُدَّ أَنْ تُلْهِبَ الْغَابَةَ حَتَّى لَتَكَادُ تَنْفَجِرُ. وَلَوْ أَنَّ نِسْبَةَ الْأُوكُسِجِينِ فِي الْهَوَاءِ قَدْ هَبَطَتْ إِلَى 10 فِي الْمِائَةِ أَوْ أَقَلَّ فَإِنَّ الْحَيَاةَ رُبَّمَا طَابَقَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهَا فِي خِلَالِ الدُّهُورِ. وَلَكِنْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَانَ الْقَلِيلُ مِنْ عَنَاصِرِ الْمَدَنِيَّةِ الَّتِي أَلِفَهَا الْإِنْسَانُ - كَالنَّارِ مَثَلًا - تَتَوَافَرُ لَهُ " .
وَهُنَاكَ آلَافُ الْمُوَافِقَاتِ فِي تَصْمِيمِ هَذَا الْكَوْنِ لَوِ اخْتَلَّ وَاحِدٌ مِنْهَا أَدْنَى اخْتِلَالٍ مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ فِي صُورَتِهَا هَذِهِ الَّتِي نَعْرِفُهَا، مُوَافِقَةً هَكَذَا لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ.
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ ذَاتُهُ فَمَنْ حَسَّنَ صُورَتَهُ هَذِهِ الْهَيْئَةُ الْمُتَفَرِّدَةُ بَيْنَ سَائِرِ الْأَحْيَاءِ; وَهَذَا الِاكْتِمَالُ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَجْهِزَةِ لِأَدَاءِ وَظَائِفِهِ جَمِيعِهَا فِي يُسْرٍ وَدِقَّةٍ; وَهَذَا التَّوَافُقُ بَيْنَ تَكْوِينِهِ وَالظُّرُوفِ الْكَوْنِيَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَسْمَحُ لَهُ بِالْوُجُودِ وَالْحَرَكَةِ فِي هَذَا الْوَسَطِ الْكَوْنِيِّ كَمَا هُوَ كَائِنُ; وَذَلِكَ كُلُّهُ فَوْقَ خَاصِّيَّتِهِ الْكُبْرَى الَّتِي جَعَلَتْ مِنْهُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ; مُجَهَّزًا بِأَدَاةِ الْخِلَافَةِ الْأُولَى: الْعَقْلُ وَالِاتِّصَالُ الرُّوحِيُّ بِمَا وَرَاءَ الْأَشْكَالِ وَالْأَعْرَاضِ.
وَلَوْ رُحْنَا نَبْحَثُ دِقَّةَ التَّكْوِينِ الْإِنْسَانِيِّ وَتَنَاسُقِ أَجْزَائِهِ وَوَظَائِفِهِ - بِوَصْفِهَ دَاخِلَةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=64وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ - لَوَقَفْنَا أَمَامَ كُلِّ عُضْوٍ صَغِيرٍ، بَلْ أَمَامَ كُلِّ خَلِيَّةٍ مُفْرَدَةٍ، فِي هَذَا الْكِيَانِ الدَّقِيقِ الْعَجِيبِ.
وَنَضْرِبُ مَثَلًا لِهَذِهِ الدِّقَّةِ الْعَجِيبَةِ فَكُّ الْإِنْسَانِ وَوَضْعُ الْأَسْنَانِ فِيهِ مِنَ النَّاحِيَةِ الْآلِيَّةِ الْبَحْتَةِ. إِنَّ هَذَا الْفَكَّ مِنَ الدِّقَّةِ بِحَيْثُ إِنَّ بُرُوزَ وَاحِدٍ عَلَى عَشَرَةٍ مِنَ الْمِلِّيمِتْرِ فِي اللَّثَةِ أَوْ فِي اللِّسَانِ يُزْحِمُ اللَّثَةَ وَاللِّسَانَ; وَبُرُوزُ مِثْلِ هَذَا الْحَجْمِ فِي ضِرْسٍ أَوْ سِنٍّ يَجْعَلُهُ يَصْطَكُّ بِمَا يُقَابِلُهُ وَيَحْتَكُّ! وَوُجُودُ وَرَقَةٍ كَوَرَقَةِ السِّيجَارَةِ بَيْنَ الْفَكَّيْنِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ يَجْعَلُهَا تَتَأَثَّرُ بِضَغْطِ الْفَكَّيْنِ عَلَيْهَا فَتَظْهَرُ فِيهَا عَلَامَاتُ الضَّغْطِ لِأَنَّهَا مِنَ الدِّقَّةِ بِحَيْثُ يَلْتَقِيَانِ تَمَامًا لِيَمْضُغَ الْفَكُّ وَيَطْحَنَ مَا هُوَ فِي سُمْكِ وَرَقَةِ السِّيجَارَةِ!
ثُمَّ.. إِنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ بِتَكْوِينِهِ هَذَا مُجَهَّزٌ لِيَعِيشَ فِي هَذَا الْكَوْنِ.. عَيْنُهُ هَذِهِ مَقِيسَةٌ عَلَى الذَّبْذَبَاتِ الضَّوْئِيَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي وَظِيفَتُهُ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَرَاهَا. وَأُذُنُهُ تِلْكَ مَقِيسَةٌ عَلَى الذَّبْذَبَاتِ الصَّوْتِيَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي وَظِيفَتُهُ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَسْمَعَهَا. وَكُلُّ حَاسَّةٍ فِيهِ أَوْ جَارِحَةٍ مُصَمَّمَةٌ وَفْقَ الْوَسَطِ الْمُهَيَّإِ لِحَيَاتِهِ، وَمُجَهَّزَةٌ كَذَلِكَ بِالْقُدْرَةِ عَلَى التَّكَيُّفِ الْمَحْدُودِ عِنْدَ تَغَيُّرِ بَعْضِ الظُّرُوفِ.
إِنَّهُ مَخْلُوقٌ لِهَذَا الْوَسَطِ. لِيَعِيشَ فِيهِ، وَيَتَأَثَّرَ بِهِ، وَيُؤَثِّرَ فِيهِ. وَهُنَاكَ ارْتِبَاطٌ وَثِيقٌ بَيْنَ تَصْمِيمِ هَذَا الْوَسَطِ وَتَكْوِينِ هَذَا الْإِنْسَانِ. وَتَصْوِيرُ الْإِنْسَانِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ ذُو عَلَاقَةٍ بِوَسَطِهِ. أَيْ بِالْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ. وَمِنْ ثَمَّ يَذْكُرُ الْقُرْآنُ صُورَتَهُ فِي نَفْسِ الْآيَةِ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ.. أَلَا إِنَّهُ الْإِعْجَازُ فِي هَذَا الْقُرْآنِ..
وَتَكْفِي هَذِهِ الْإِشَارَاتُ بِهَذَا الِاخْتِصَارِ إِلَى دِقَّةِ صُنْعِ اللَّهِ وَتَنَاسُقِهِ بَيْنَ الْكَوْنِ وَالْإِنْسَانِ.