وتختم السورة بهذا الإيقاع الأخير..
والآن نبدأ في التفصيل..
حم. تنزيل من الرحمن الرحيم. كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون. بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون. وقالوا: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، وفي آذاننا وقر، ومن بيننا وبينك حجاب. فاعمل إننا عاملون. قل إنما أنا بشر مثلكم، يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد، فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين، الذين لا يؤتون الزكاة، وهم بالآخرة هم كافرون. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون ..
سبق الحديث عن الافتتاح بالأحرف المقطعة في سور شتى. وتكرار هذا الافتتاح: " حا. ميم " .. يتمشى مع طريقة القرآن في تكرار الإشارة إلى الحقائق التي يلمس بها القلب البشري، لأن فطرة هذا القلب تحتاج إلى تكرار التنبيه; فهو ينسى إذا طال عليه الأمد; وهو يحتاج ابتداء إلى التكرار بطرق شتى لتثبيت أية حقيقة شعورية فيه. والقرآن يأخذ هذا القلب بما أودع في فطرته من خصائص واستعدادات، وفق ما يعلم خالق هذا القلب ومصرفه بما يشاء.
تنزيل من الرحمن الرحيم .. وكأن " حا. ميم " اسم للسورة. أو لجنس القرآن. إذ أنها من جنس الأحرف التي صيغ منها لفظ هذا القرآن. وهي تقع مبتدأ.. و تنزيل من الرحمن الرحيم خبر المبتدإ.
وذكر الرحمن الرحيم عند ذكر تنزيل الكتاب; يشير إلى الصفة الغالبة في هذا التنزيل. صفة الرحمة. [ ص: 3108 ] وما من شك أن تنزيل هذا الكتاب جاء رحمة للعالمين. رحمة لمن آمنوا به واتبعوه ورحمة كذلك لغيرهم. لا من الناس وحدهم، ولكن للأحياء جميعا. فقد سن منهجا ورسم خطة تقوم على الخير للجميع. وأثر في حياة البشرية، وتصوراتها، ومدركاتها، وخط سيرها; ولم يقتصر في هذا على المؤمنين به إنما كان تأثيره عالميا ومطردا منذ أن جاء إلى العالمين. والذين يتتبعون التاريخ البشري بإنصاف ودقة; ويتتبعونه في معناه الإنساني العام الشامل لجميع أوجه النشاط الإنساني، يدركن هذه الحقيقة، ويطمئنون إليها. وكثيرون منهم قد سجلوا هذا واعترفوا به في وضوح.
كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ..
والتفصيل المحكم، وفق الأغراض والأهداف، ووفق أنواع الطبائع والعقول، ووفق البيئات والعصور، ووفق الحالات النفسية وحاجاتها المتنوعة.. التفصيل المحكم وفق هذه الاعتبارات سمة واضحة في هذا الكتاب. وقد فصلت هذه الآيات وفق تلك الاعتبارات. فصلت قرآنا عربيا لقوم يعلمون .. لديهم الاستعداد للعلم والمعرفة والتمييز.
وقام هذا القرآن يؤدي وظيفته:
بشيرا ونذيرا ..
يبشر المؤمنين العاملين، وينذر المكذبين المسيئين، ويبين أسباب البشرى وأسباب الإنذار بأسلوبه العربي المبين. لقوم لغتهم العربية. ولكن أكثرهم مع هذا لم يقبل ويستجب:
فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون
وقد كانوا يعرضون فلا يسمعون فعلا، ويتحامون أن يعرضوا قلوبهم لتأثير هذا القرآن القاهر. وكانوا يحضون الجماهير على عدم السماع كما سيجيء قولهم: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ..
وأحيانا كانوا يسمعون، وكأنهم لا يسمعون،لأنهم يقاومون أثر هذا القرآن في نفوسهم; فكأنهم صم لا يسمعون!
وقالوا: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، وفي آذاننا وقر، ومن بيننا وبينك حجاب، فاعمل إننا عاملون ..
قالوا هذا إمعانا في العناد، وتيئيسا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ليكف عن دعوتهم، لما كانوا يجدونه في قلوبهم من وقع كلماته، على حين يريدون عامدين ألا يكونوا مؤمنين!
قالوا: قلوبنا في أغطية فلا تصل إليها كلماتك. وفي أذاننا صمم فلا تسمع دعوتك. ومن بيننا وبينك حجاب، فلا اتصال بيننا وبينك. فدعنا واعمل لنفسك فإننا عاملون لأنفسنا. أو أنهم قالوا غير مبادلين: نحن لا نبالي قولك وفعلك، وإنذارك ووعيدك. فإذا شئت فامض في طريقك فإنا ماضون في طريقنا. لا نسمع لك وافعل ما أنت فاعل. وهات وعيدك الذي تهددنا به فإننا غير مبالين.
هذا نموذج مما كان يلقاه صاحب الدعوة الأول - صلى الله عليه وسلم - ثم يمضي في طريقه يدعو ويدعو، لا يكف عن الدعوة، ولا ييأس من التيئيس، ولا يستبطئ وعد الله له ولا وعيده للمكذبين. كان يمضي مأمورا أن يعلن لهم أن تحقق وعيد الله ليس بيده; فما هو إلا بشر يتلقى الوحي، فيبلغ به، ويدعو الناس إلى الله الواحد. وإلى الاستقامة على الطريق، وينذر المشركين كما أمر أن يفعل. والأمر بعد ذلك لله لا يملك منه شيئا، فهو ليس إلا بشرا مأمورا:
[ ص: 3109 ] قل: إنما أنا بشر مثلكم، يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه، وويل للمشركين ..
يا لعظمة الصبر والاحتمال والإيمان والتسليم! إنه لا يدرك ما في الصبر على هذه الحال، والتبرؤ من كل حول وقوة في مثل هذا الموقف، واحتمال الإعراض والتكذيب في تبجح واستهتار، دون استعجال الآية التي تردع المعرضين المكذبين المستهترين.. إنه لا يدرك ما في الصبر على هذا الحال من مشقة، ومن عظمة في احتمال هذه المشقة، إلا من يكابد طرفا من هذا الموقف في واقع الحياة. ثم يمضي في الطريق!
ومن أجل هذا الموقف وأمثاله كان التوجيه إلى الصبر كثير الورود للأنبياء والرسل. فطريق الدعوة هو طريق الصبر. الصبر الطويل. وأول ما يستوجب الصبر تلك الرغبة الملحة في انتظار الدعوة، ثم إبطاء النصر. بل إبطاء أماراته. ثم ضرورة التسليم لهذا والرضى به والقبول!
إن أقصى ما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يؤمر به في مقابلة التبجح والاستهتار أن يقول:
وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون ..
وتخصيص الزكاة في هذا الموضع لا بد كانت له مناسبة حاضرة، لم نقف عليها، فهذه الآية مكية. والزكاة لم تفرض إلا في السنة الثانية من الهجرة في المدينة. وإن كان أصل الزكاة كان معروفا في مكة . والذي جد في المدينة هو بيان أنصبتها في المال، وتحصيلها كفريضة معينة. أما في مكة فقد كانت أمرا عاما يتطوع به المتطوعون، غير محدود، وأداؤه موكول إلى الضمير.. أما الكفر بالآخرة فهو عين الكفر الذي يستحق الويل والثبور.
وقد ذكر بعضهم أن المقصود بالزكاة هنا الإيمان والطهارة من الشرك. وهو محتمل كذلك في مثل هذه الظروف.
ثم يمضي الداعية يكشف لهم عن شناعة الجرم الذي يرتكبونه بالشرك والكفر. يمضي بهم في المجال الكوني العريض. مجال السماوات والأرض، والكون الذي هم بالقياس إليه شيء ضئيل هزيل. يمضي بهم في هذا المجال ليكشف لهم عن سلطان الله الذي يكفرون به في فطرة هذا الكون الذي هم جزء منه. ثم ليخرجهم من الزاوية الضيقة الصغيرة التي ينظرون منها إلى هذه الدعوة، حيث يرون أنفسهم وذواتهم كبيرة كبيرة; ويشغلهم النظر إليها وإلى اختيار محمد - صلى الله عليه وسلم - من دونهم. والحرص على مكانتهم ومصالحهم.. إلى آخر هذه الاعتبارات الصغيرة.. يشغلهم هذا عن النظر إلى الحقيقة الضخمة التي جاءهم بها محمد ، وفصلها هذا القرآن. الحقيقة التي تتصل بالسماوات والأرض; وتتصل بالبشرية كلها في جميع أعصارها; وتتصل بالحق الكبير الذي يتجاوز زمانهم ومكانهم وشخوصهم; وتتصل بالكون كله في الصميم:
قل: أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين، وتجعلون له أندادا؟ ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها، وبارك فيها، وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين. ثم استوى إلى السماء وهي دخان، فقال لها وللأرض: ائتيا طوعا أو كرها. قالتا: أتينا طائعين. فقضاهن سبع سماوات في يومين، وأوحى في كل سماء أمرها، وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا. ذلك تقدير العزيز العليم ..
قل لهم: إنكم إذ تكفرون. إذ تلقون بهذه الكلمة الكبيرة في استهتار. إنما تأتون أمرا عظيما، مستنكرا قبيحا، إنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها. وبارك فيها. وقدر فيها أقواتها.
[ ص: 3110 ] والذي خلق السماوات ونظم أمرها. وزين السماء الدنيا بمصابيح وحفظا. والذي أسلمت له السماء والأرض قيادهما طائعتين مستسلمتين.. وأنتم.. أنتم بعض سكان هذه الأرض تتأبون وتستكبرون!
ولكن النسق القرآني يعرض هذه الحقائق بطريقة القرآن التي تبلغ أعماق القلوب وتهزها هزا. فلنحاول أن نسير مع هذا النسق بالترتيب والتفصيل: