قوله تعالى: فجزاء مثل ما قتل من النعم الآية: اختلف في المراد بالمثل، فروي عن أن المثل نظيره في الخلقة، ففي الظبية شاة، وفي النعامة بدنة، وهو مذهب ابن عباس فيما له نظير من النعم، وما لا نظير له كالعصافير وغيرها، ففيه القيمة. الشافعي
وأبو حنيفة يرون أن المثل هو القيمة، ويشتري بالقيمة هديا، وإن شاء طعاما، وأعطى كل مسكين نصف صاع، وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوما. وأبو يوسف
وظاهر القرآن يشهد ، فإن الذي يتعارفه الناس من المثل، المثل من حيث الخلقة، يقال فيمن أتلف طعاما عليه المثل، وفيمن أتلف عبدا فعليه القيمة، فإن الطعام من حيث الخلقة، ولا مثل للصيد من جنسه، إلا أن الفرق أن المثل فيما نحن فيه، وإن روعي من حيث الخلقة فهو من غير جنس الصيد، مثل إيجابنا البدنة في النعامة، والكبش في الضبع، وهذا لا يمنع كونه مثلا من حيث الخلقة. والمقصود: بيان أن المثل في المتعارف هو المثل من حيث الخلقة والصورة، فاعلمه. للشافعي
ونحن نقول: إن مرعبة، ولا نعني بالمماثلة ما نعنيه في ذرات الأمثال، وإنما نعني المماثلة من وجه آخر، وذلك ليعلم أن المماثلة إذا أطلقت، فالمفهوم منها المماثلة من غير الصورة. فإن قال قائل: القيمة مثل في المالية شرعا، ولم يثبت في عرف الشرع أنه اسم للنظير من جنس آخر من النعم، وأن ذلك يسمى مثلا، نعم [ ص: 110 ] القيمة مثل للشيء من حيث المعنى، والذي في ذوات الأمثال مثل من طريق الصورة والمعنى، أما البدنة في قتل النعامة فليست مثلا للنعامة لا صورة ولا معنى، فإذا لم يكن كذلك فلا طريق أصلا إلى ما قلناه. المماثلة في القصاص
والجواب أن المعتبر في ذلك فهم معنى كتاب الله تعالى وتتبع دلالته، فإذا قال تعالى: فجزاء مثل ما قتل من النعم كان المثل من النعم، والمثل من النعم لا يجوز أن يكون بطريق القيمة، فإن العبد لا يكون مثلا للعبد في الإطلاق وإن ساواه في القيمة. نعم، إنا لا نطلق القول بالمماثلة بين الجنسين المختلفين، ولكن إذا قيل: مثل ما قتل من النعم، فلا يظهر منه إلا المماثلة بينهما من حيث الصورة، ومن أجل ذلك أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على إيجاب البدنة في النعامة، أفيتوهم متوهم أن قيمة النعامة بدنة في زمن الصحابة وفي زمن التابعين قيمتها في وقت من الأوقات، وهل سمعنا أن قيمة النعامة كانت عند المسلمين قيمة بدنة، قالوا: القيمة معنية بهذا المثل فيما لا نظير له، فواجب أن يفهم من اللفظ في الكبير من الصيد ما فهم من الصغير، فإن اللفظ اشتمل عليها اشتمالا واحدا، ومتى اعتبر النظير اختص اللفظ ببعض المسميات.
الجواب: أن الذي قالوه، وتحكم، فإن الآية نص في إيجاب المثل من النعم، فإذا قال الله تعالى: فجزاء مثل ما قتل من النعم فمعناه: بالمثل من النعم، والجزاء من النعم بطريق المماثلة، ولو اقتصر على قوله: فجزاء مثل ما قتل من النعم ، أو فجزاؤه من النعم، لم يمكن طرح النعم المذكور، وجعل القيمة أصلا، وكذلك هاهنا. وعلى هذا لا دلالة للآية على صفات الصيود، وإنما وجوب القيمة فيها متلقى من الإجماع. [ ص: 111 ] فإن قيل: سمى الله تعالى القيمة مثلا في قوله: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم .
قلنا: ليس المراد به القيمة وإنما المراد به: القصاص والمماثلة فيه، فإن وجوب ذلك موقوف على الاعتداء، لا على القيمة التي تجب، حيث يجوز له إتلاف مال الغير، ويجب شرط الضمان، فوصف الاعتداء في ضمان القيمة لغو من هذا الوجه، وإنما المراد به القصاص، وهذا بين جدا.
فإن قيل: قال الله تعالى: يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة . ولو كان الواجب مثل ما ذكرتموه من البدنة في النعامة من غير اختلاف. ومثل الكبش في الضبع، فليس ذلك مما يحتاج فيه إلى الارتياء والنظر ومعرفة الشكل حتى يحتاج فيه إلى ذوي عدل، وإنما يحتاج إلى ذوي العدل فيما يختلف ويتفاوت فيه النظر ويضطرب فيه الرأي، ويدل عليه أنه ذكر الطعام والصيام وليسا مثلا وأدخل "أو" بينهما وبين النعم، فلا بد أن يكون ترتيب الآية: فجزاء مثل ما قتل من النعم أو من الطعام أو الصيام.. وتقديم ذكر النعم في التلاوة لا يوجد تقديمه في المعنى، بل الكل كأنه مذكور معا، فلا فرق على هذا بين هذا الترتيب الموجود من الآية، وبين أن يقول: فجزاء مثل ما قتل طعاما أو صياما ومن النعم هديا، ونظيره: فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، أو كسوتهم أو تحرير رقبة، ولا يقتضي ذلك كون الطعام مقدما على الكسوة، ولا الكسوة مقدمة على العتق، بل الكل كأنه مذكور في لفظ [ ص: 112 ] واحد معا، فكذلك قوله: فجزاء مثل ما قتل من النعم، موصول بقوله: يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة، أو كفارة طعام مساكين، لم يكن ذكر النعم تفسيرا للمثل.
الجواب: أن الذي قالوه غلط، فإن قوله: يحكم به ذوا عدل منكم في اعتبار حال الصيد في صغره وكبره، موجب في أدنى النعم بدنة على قدرها، وفي الرفيعة على قدرها، وذلك يقتضي حكم ذوي العدل، وأما قولهم: إن الله تعالى ذكر الطعام والصيام، قيل: لا جرم لا يحسن في الإطلاق أن يقول: فجزاء مثل ما قتل من الطعام أو الصيام أو الصلاة، إن ورد الشرع بالصلاة، فإن الصوم لا يكون مثلا للحيوان في الإطلاق، وكذلك الطعام، فيدل ذلك على أن قوله تعالى: فجزاء مثل ما قتل من النعم يقتضي إيجاب المثل من النعم، أو الطعام إذا لم يرد المثل، أو عدل ذلك صياما، فالمماثلة معتبرة من جهة الخلقة والصورة في النعم، ولا يتحقق ذلك في الطعام والصيام. قالوا: قوله: فجزاء مثل ما قتل كلام تام غير مفتقر إلى تضمينه بغيره، وهو قوله: من النعم يحكم به ذوا عدل منكم .. أو كفارة طعام مساكين، يمكن استعماله على غير وجه التفسير للمثل، فلم يجز أن يجعل المثل مضمنا بالنعم مع استغناء الكلام عنه، لأن كل كلام له حكمه، غير جائز تضمينه بغيره إلا بدلالة تقوم عليه سواه، ولأن قوله: "من النعم" معلوم أن فيه ضمير إرادة الحرم، فمعناه: من النعم يحكم به ذوا عدل منكم، هديا إن أراد الهدي، والطعام إن أراد الطعام، فليس هو إذا تفسيرا للمثل، كما أن الطعام والصيام ليسا المثل المذكور. والجواب أن قوله تعالى: فجزاء مثل ما قتل ، أن قدر الاقتصار عليه كان مجملا لا يكفي في البيان، فإن المثل يقع على وجوه مختلفة. [ ص: 113 ] وقوله: "من النعم" بيان ذلك الإجمال لا محالة، ولا يجوز أن يقال: من النعم يحكم به ذوا عدل، غير مرتب على ما تقدم، وهذا معلوم ضرورة، وإنما كان يستقيم ما ذكروه، أن لو كان صدر الكلام مستقلا بالبيان وفيه شيء آخر، وهو أنا لا نثبت المماثلة على الوجه الذي ذكروه وتوهموه، وإنما نقول: يقوم الهدي، ثم يشتري بقيمة الهدي طعاما، فلا مماثلة مع الهدي بوجه، وإنما المماثلة والمقابلة مع النعم، ثم يقوم النعم ويشتري به طعاما، لأن الله تعالى ذكر المماثلة مع النعم، ولم يذكر المماثلة مع الصيد. نعم، يقول: يقوم الصيد دراهم، ثم يشتري بالدراهم طعاما، فيطعم كل مسكين نصف صاع. فأما أبو حنيفة فإنه يرى المثل من النعم، ثم يقوم المثل كما في المثليات يقوم المثل، وتوجد قيمة المثل، فستكون قيمة المثل كقيمة الشيء، فإن المثل هو الأصل في الوجوب وهذا لا غبار عليه . الشافعي