ولما دل على كذبهم في دعوى الإيمان بما فعلوا بعد موسى مما استحقوا به الخلود في النار أقام دليلا آخر أقوى من كل ما تقدمه ، فإنه لم يعهد إليهم في التوراة ما عهد إليهم في التوحيد والبعد عن الإشراك وهو في النسخ الموجودة بين أظهرهم الآن ، وقد نقضوا جميع ذلك باتخاذ العجل في أيام موسى وبحضرة هارون عليهما السلام كما هو منصوص الآن فيما بين أيديهم منها فقال تعالى : ولقد جاءكم موسى بالبينات من الآيات .
ولما كان كفرهم مع ذلك في غاية الاستبعاد عبر عنه بأداته مصورا لزيادة قبحه بترتبه على أظهر البيان وموبخا لهم فقال : ثم اتخذتم أي : مع العلاج لفطركم الأولى وعقولكم السليمة العجل ونبه بالجار [ ص: 51 ] على أن الاتخاذ في بعض زمن البعد فقال : من بعده أي : بعد مفارقة موسى لكم إلى الطور كما في الآية الأخرى ، فتنا قومك من بعدك وأنتم أي : والحال أنكم ظالمون أي : لم تزعموا أنه إلهكم على جهل منكم بل بعد مجيء البينات إليكم أن إلهكم إنما هو الله الذي أنقذكم من العبودية وأراكم من العجائب الخوارق ما لا يقبل شكا وسمعتم كلامه فعلمتم أنه ليس بجسم ولا يشبه الجسم ، فلم تفعلوا ذلك إلا لأن الظلم -وهو المشي على غير نظام خبط عشواء- وصف لكم لازم .