[ ص: 77 ] ولما ذكر سبحانه مواعدته واحتياطه في إصلاح قومه، شرح أمره حال المواعدة وحالهم بعد غيبته فقال: ولما جاء موسى لميقاتنا أي: عند أول الوقت الذي قدرناه للمناجاة; ولما كان مقام الجلال مهولا لا يستطاع وعي الكلام معه، التفت إلى مقام الإكرام فقال: وكلمه أي: من غير واسطة ربه أي: المحسن إليه بأنواع الإحسان المتفضل على قومه بأنواع الامتنان، موسى عليه السلام عند أهل السنة من الأشاعرة هو الصفة الأزلية من غير صوت ولا حرف، ولا بعد في ذلك كما لا بعد في والذي سمعه وعن رؤية ذاته سبحانه وهي ليست بجسم ولا عرض لا جوهر، وليس كمثله شيء، رضي الله عنهما أنه سبحانه كلمه في جميع الميقات وكتب له الألواح، وقيل: إنما كلمه في أول الأربعين، والأول أولى. ابن عباس
ولما كلمه بصفة الربوبية الناظر إلى العطف واللطف، وكانت الرؤية جائزة، اشتاق إلى الرؤية شوقا لم يتمالك معه لما استحلاه من لذاذة الخطاب فسألها لعلمه أنها جائزة قال [مسقطا الأداة كعادة أهل القرب] رب أرني أي: ذاتك الأقدس بأن ترفع عني الحجاب فتجعلني متمكنا من النظر، وهو معنى قول الحبر : أعطني [وحقق أنها رؤية العين بقوله في جواب الأمر] ابن عباس انظر [أي: أصوب تحديق العين] وأشار إلى عظمته سبحانه وعلو شأنه [ ص: 78 ] [علو العظمة لا المسافة] بالتعدية بحرف النهاية [بعد أن أشار بحذف أداة النداء إلى غاية القرب بالإحسان] فقال: إليك أي: فأراك.
ولما كان سبحانه قد قضى أنه عليه السلام لا يراه في الدنيا قال نافيا المقصود، وهو الرؤية لا مقدمتها، وهو النظر الذي هو التحديق بالعين لن تراني ودل سبحانه بهذه العبارة على حيث لم يقل: لن أرى، أو لن يراني أحد; ثم زاد ذلك بيانا بتعليقه بممكن فقال: جواز رؤيته ولكن انظر إلى الجبل إشارة إلى جبل بعهده، وهو أعظم جبل هناك. [وزاد في الإشارة إلى الرؤية بالتعبير بأداة الشك وإتباعها بأمر ممكن فقال]: فإن استقر مكانه أي: وجد قراره وجودا تاما، وأشار إلى بعد الرؤية أيضا وجلالة المطلوب منها بقوله: فسوف تراني أي: بوعد لا خلف فيه فلما تجلى ربه أي: المحسن إليه بكل عطاء ومنع [وبين بتعبيره باللام أنه تجلي قربه وخصوصيته، ولو عبر بعلى مثلا لكان أمر آخر فقال]: للجبل أي: بأن كشف للجبل عما شاء من حجب عظمته جعله دكا أي: مدكوكا، والدك والدق أخوان وخر أي: وقع موسى صعقا أي: مغشيا عليه مع صوت هائل، فعلم أن معنى الاستدراك أنك لن تثبت لرؤيتي في هذه الدار ولا تعرف ذلك الآن، ولكنك تعرفه بمثال أريكه وهو الجبل، [فإن الفاني - كما نقل عن الإمام مالك - لا ينبغي له أن يرى [ ص: 79 ] الباقي] فلما أفاق أي: من غشيته قال سبحانك أي: تنزيها لك عن أن أطلب منك ما لم تأذن فيه تبت إليك أي: من ذلك وأنا أول المؤمنين أي: مبادر غاية بكل ما أخبرت به كل ما تضمنته هذه الآيات، [فتعبيره بالإيمان في غاية المناسبة لعدم الرؤية لأن شرط الإيمان أن يكون بالغيب، فقد ورد في نبينا صلى الله عليه وسلم آيتان: إحداهما يمكن أن تشير إلى الرؤية بالتعبير بالمسلمين دون المؤمنين في قوله: المبادرة إلى الإيمان وأنا أول المسلمين والثانية تومي إلى عدمها وهي آمن الرسول إلى قوله: كل آمن بالله والله أعلم]، وكل هذا تبكيت على قومه وتبكيت لهم في عبادتهم العجل وردع لهم عن ذلك، وتنبيه لهم على أن الإلهية مقرونة بالعظمة والكبر، بعيدة جدا عن ذوي الأجسام لما يعلم سبحانه من أنهم سيكررون عبادة الأصنام، فأثبت للإله الحق الكلام والتردي عن الرؤية بحجاب الكبر والعظمة واندكاك الجبل عند تجليه ونصب الشرع الهادي إلى أقوم سبيل تعريضا بالعجل، وإلى ذلك يرشد قوله تعالى: ألم يروا أنه لا يكلمهم الآية.