[ولما كان اليهود ربما ادعوا ذلك مكابرة، وأوضح غاية الإيضاح بقوله]: الذين يتبعون أي: بغاية جهدهم الرسول ولما كان هذا الوصف وحده غير مبين للمراد ولا صريح في الرسالة عن الله ولا في كونه من البشر، قال: النبي أي: الذي يأتيه الوحي من الله فبدأ بالأشرف وثنى بما خصه برسالة الله وكونه من الآدميين لا من الملائكة.
ولما لم يتم المراد، قال مبينا لأعظم المعجزات، وهي أن علمه بغير معلم من البشر: الأمي أي: الذي هو مع ذلك العلم المحيط على [صفة] الأم، وأمة العرب لا يكتب ولا يقرأ ولا يخالط العلماء للتعليم منهم بل لتعليمهم، فانطبق الوصف على الموصوف مع التنويه [ ص: 107 ] بجلالة الأوصاف والتشويق إلى الموصوف، [ولم يعطف لئلا يوهم تعداد الموصوف] والمعنى أني لا أغفر لأحد من بني إسرائيل ولا من غيرهم إلا إن اتبع محمدا صلى الله عليه وسلم، وهذا الاتباع تارة يكون بالقوة فقط لمن تقدم موته على زمانه، وتارة يخرج منه القوة إلى الفعل ممن لحق زمان دعوته، فمن علم الله منه أنه لا يتبعه إذا أدركه لا يغفر له ولو عمل جميع الطاعات غير ذلك، وعرفه لهم بجميع خواصه حتى لا يتطرق إليه عند مجيئه ريب ولا يتعلل في أمره بعلة، ولذلك أتبعه بقوله: الذي يجدونه أي: علماء بني إسرائيل; ولما اشتد تشوف السامع بذكر الوجدان، قال: مكتوبا ثم قرب الأمر بقوله: عندهم ثم بين أنه مما لا يدخله شك بقوله: في التوراة والإنجيل أي: اللذين يعلمون أنهما من عند الله بصفته البينة كما تقدم بيانه عما عللوا عن تبديله منهما في البقرة وإذ ابتلى إبراهيم ربه وفي آل عمران عند: إن الله اصطفى آدم ونوحا وفي النساء عند: وما قتلوه يقينا وفي التوراة أيضا من ذلك في الفصل الحادي عشر من السفر الخامس: وإذا دخلتم الأرض التي يعطيكم الله ربكم فلا تعملوا مثل أعمال تلك الشعوب ولا يوجد فيكم من يطلب تعليم العرافين، ثم قال: لأن هذه الشعوب التي ترثونها كانت تطيع العرافين والمنجمين، فأما أنتم فليس هكذا يعطيكم الله ربكم، يل يقيم لكم نبيا من إخوتكم مثلي، [ ص: 108 ] فأطيعوا ذلك النبي كما طلبتم إلى الله ربكم في حوريب يوم الجماعة وقلتم: لا تسمع صوت الله ربنا ولا تعاين هذه النار العظيمة لئلا نموت، فقال الرب: ما أحسن ما تكلموا، إني سأقيم لهم نبيا من إخوتهم مثلك، أجعل كلامي في فيه ويقول لهم ما آمره به، والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه ومن سبطه. انتهى. هكذا رأيته مترجما في بعض نسخ التوراة، ثم رأيت السموأل بن يحيى المغربي ترجمه في كتابه الذي ذكر فيه سبب إسلامه وكان من أكابر علمائهم بل العلماء فقال: نبيا أقيم لهم من وسط إخوتهم مثلك، به فليؤمنوا. انتهى. وهو يعني أن يكون هذا النبي محمدا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من بني إسماعيل أخي إسحاق وقد أتى بشريعة مستقلة لا تعلق لها بشريعة قبلها ولا توقف لها عليها، وذلك أن في العبارة كلمتين: مثل وإخوة، وحقيقة الأخ ابن أحد الأبوين، وهو لا يتأتى في أحد من أنبيائهم، فأقرب المجاز إلى حقيقته الحمل على أخي الأب، وهو إسماعيل عليه السلام، والشائع في الاستعمال في نحو ذلك على تقدير إرادة أحد منهم أن يقال: من أنفسهم، لا من إخوتهم، وحقيقة المثل المشارك في أخص الصفات، [ ص: 109 ] وأخص موسى عليه السلام الرسالة والكتاب بشريعة مستقلة، ولم يأت منهم بعده من هو بهذه الصفة؛ لأن صفات عيسى عليه السلام لم ينسخ من شريعة موسى عليه السلام إلا بعض الأحكام، وعلى تقدير دعوى ذلك فيه لكونه نسخ في الجملة وتسليم ذلك لا يتأتى قصده بهذا النص لوجهين: أحدهما أنه ليس من رجالهم إلا بواسطة أمه، فحق العبارة فيه: من بني أخواتهم - جمع أخت، وإذا أريد آباء أمه كان المجاز فيهم أبعد من المجاز في بني إسماعيل لما تقدم، ولا ينتقل إلى الأبعد إلا بقرينة تصرف عن الأقرب - والله أعلم. وقال السموأل بن يحيى أحد أحبارهم في سبب إسلامه: إن اليهود يقولون: إن هذه البشارة نزلت في [حق] سموأل أحد أنبيائهم الذين بعد موسى لأنه كان مثل موسى عليه السلام في أنه من سبط لاوي، وقال: إنه رأى سموأل عليه السلام في المنام وأنه دفع إليه كتابا فوجد فيه هذه البشارة فقال له: هنيئا لك يا نبي الله ما خصك الله به! فنظر مغضبا وقال: أوإياي أراد الله بهذا يا ذكي! ما أفادتك إذن البراهين الهندسية، فقلت: يا نبي الله! فمن أراد الله بهذا؟ قال: الذي أراد في قوله: هوفيع ميهار فاران، وتفسيره إشارة إلى نبوة وعد بنزولها على جبال فاران، فعرفت أنه يعني المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأنه المبعوث من جبال فاران وهي جبال مكة، ثم قال: أو ما علمت أن الله لم يبعثني بنسخ شيء من التوراة، وإنما بعثني أذكرهم بها وأحيي شرائعها [ ص: 110 ] وأخلصهم من أهل فلسطين، قلت: بلى يا نبي الله! قال: فأي حاجة بهم إلى أن يوصيهم ربهم باتباع من لم ينسخ دينهم ولم يغير شريعتهم، أرأيتهم احتاجوا إلى أن يوصيهم بقبول نبوة دانيال أو يرميا أو حزقيل؟ قلت: لا لعمري! فأخذ الكتاب من يدي وانصرف مغضبا فارتعبت لغضبه وازدجرت لموعظته واستيقظت مذعورا. وقال في كتابه: غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود: إن الله يطلق الإخوة على غير بني إسرائيل كما قال في بني العيص بن إسحاق عليه السلام في الجزء الأول من السفر الخامس ما تفسيره: أنتم عابرون في تخم إخوتكم بني العيص فإذا كان بنو العيص إخوة لبني إسرائيل لأن العيص وإسرائيل ولدا إسحاق، فكذلك بنو إسماعيل إخوة لجميع ولد إبراهيم عليهم السلام، قال: وفي الجزء الثالث من السفر الأول من التوراة في ذكر البشارة لإبراهيم عليه السلام ما تفسيره: وأما في إسماعيل فقد قبلت دعاءك، ها قد باركت فيه وأثمره وأكثره جدا جدا وقال: إن جدا جدا بلسان العبراني مفسر "بماد ماد" وهاتان الكلمتان إذا عددنا حروفها بحساب الجمل كان اثنتين وتسعين، وذلك عدد حساب حروف اسم محمد صلى الله عليه وسلم، يعني فتعين أن يكون مرادا بها لأنها في البشارة بتكثير إسماعيل عليه السلام، وليس في [ ص: 111 ] أولاده من كثره الله به وعدد اسمه هذا العدد غير محمد صلى الله عليه وسلم، قال: وإنما جعل ذلك في هذا الموضع ملغزا؛ لأنه لو صرح به لبدلته اليهود أو أسقطته من التوراة كما عملوا في غيره. انتهى.
وفي آخرة فصول التوراة: دعا موسى عبد الله لبني إسرائيل قبل وفاته قال: أتى ربنا من سيناء وشرق لنا من جبل ساعير وظهر لنا من جبل - وفي نسخة: جبال - فاران، معه ربوات الأطهار على يمينه، أعطاهم وحببهم إلى الشعوب وبارك على جميع أطهاره، و [هم] يتبعون آثارك ويتناقلون كلماتك. وفي نسخة بدل: معه ربوات الأطهار، إلى آخره: وأتى [من] ربوات القدس بشريعة نوره من يمينه لهم، واصطفى أيضا شعبا فجميع خواصه في طاعتك وهم يقفون آثارك وسيتناقلون كلماتك. انتهى.
فالذي ظهر من جبال فاران هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم معترفون أنها مكة، ومعه ربوات، أي: جماعات الأطهار، وأمته حببت إلى الشعوب؛ لأن كلا من فريقي أهل الكتاب يقدمهم على الفريق الآخر، ولم يقبل أحد جميع كلام موسى عليه السلام ويتبع جميع آثاره في بشارته ممن يأتي بعد غيرهم، هذا وأما الإنجيل فالبشائر فيه أكثر وقد تقدم كثير منها، وهي تكاد أن تكون صريحة في سورة النساء في قصة رفعه عليه السلام، [ ص: 112 ] ومما فيه أيضا ما في إنجيل متى وغيره وأغلب السياق له: كثيرا أولون يصيرون آخرين وآخرون يصيرون أولين، يشبه ملكوت السماوات إنسانا رب بيت حرج بالغداة يستأجر فعلة لكرمه فشارط الأكرة على دينار واحد في اليوم وأرسلهم إلى كرمه، ثم خرج في ثالث ساعة فأبصر آخرين قياما في السوق بطالين، فقال لهم: امضوا أنتم إلى كرمي وأنا أعطيكم ما تستحقون، فمضوا، وخرج أيضا في الساعة السادسة والتاسعة فصنع كذلك، وخرج في الحادية عشرة فوجد آخرين قياما، فقال لهم: ما قيامكم كل النهار بطالين؟ فقالوا له: لم يستأجرنا أحد، فقال لهم: امضوا أنتم بسرعة إلى الكرم وأنا أعطيكم ما تستحقون، فلما كان المساء قال رب الكرم لوكيله: ادع الفعلة وأعطهم الأجرة وابدأ بهم من الآخرين إلى الأولين، فجاء أصحاب الساعة الحادية عشرة فأخذوا دينارا كل واحد، فجاء الأولون فظنوا أنهم يأخذون أكثر فأخذوا دينارا كل واحد، و [لما أخذوا] تعمقوا على رب البيت وقالوا: إن هؤلاء الآخرين عملوا ساعة واحدة، جعلتهم أسوتنا ونحن حملنا ثقل النهار وحره! فقال لواحد منهم: يا صاحب! ما ظلمتك، ألست بدينار شارطتك، خذ شيئك وامض، أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك، أوما لي أن أفعل ما أردت بمالي؟ وأن عينك شريرة، كذلك يكون الآخرون أولين، والأولون آخرين، ما أكثر المدعوين وأقل المنتخبين، [ ص: 113 ] وقال: ودخل إلى الهيكل فجاء إليه رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب وقالوا له وهو يعلم: بأي سلطان تفعل هذا؟ ومن أعطاك هذا السلطان؟ أجاب يسوع وقال لهم: أنا أسألكم عن كلمة واحدة، فإن أنتم قلتم لي قلت لكم بأي سلطان أفعل هذا، معمودية يوحنا من أين هي؟ من السماء أو من الناس؟ ففكروا في نفوسهم قائلين: إن قلنا: من السماء قال لنا: لماذا لم تؤمنوا به؟ وإن قلنا: من الناس، خفنا من الجمع، وقال لوقا: وإن قلنا من الناس فإن جميع الشعب يرجمنا لأنهم قد تيقنوا أن يوحنا نبي; وقال متى: لأن يوحنا كان عندهم مثل نبي; وقال مرقس: لأن جميعهم كان يقول: إن يوحنا نبي; قال متى: فقالوا: لا نعلم، فقال: ولا أنا أيضا أعلمكم بأي سلطان أفعل هذا. قال مرقس: وبدأ يكلمهم بأمثال قائلا; قال متى: ماذا تظنون بإنسان كان له ابنان فجاء إلى الأول فقال له: يا بني! اذهب اليوم واعمل في الكرم، فأجاب وقال: ما أريد، وبعد ذلك ندم ومضى، جاء إلى الثاني وقال له مثل هذا فأجاب وقال: نعم يا رب! أنا أمضي، ولم يمض، من منهما فعل إرادة الأب؟ فقالوا له: الأول، فقال لهم يسوع: الحق أقول لكم! إن العشارين والزناة يسبقونكم إلى ملكوت الله، جاءكم يوحنا بطريق العدل فلم تؤمنوا به، والعشارون والزناة آمنوا به، فأما أنتم فرأيتم ذلك ولم تندموا أخيرا لتؤمنوا به. اسمعوا مثلا آخر: إنسان رب بيت غرس كرما وأحاط [ ص: 114 ] به سياجا وحفر فيه معصرة وبنى فيه برجا ودفعه إلى فعلة وسافر - قال لوقا: زمانا كثيرا - فلما قرب زمان الثمار أرسل عبيده إلى الفعلة ليأخذوا ثمرته، فأخذ الفعلة عبيده، ضربوا بعضا وقتلوا بعضا ورجموا بعضا، فأرسل أيضا عبيدا آخرين أكثر من الأولين فصنعوا بهم كذلك، وفي الآخرة أرسل إليهم ابنه وقال: لعلهم يستحيون من ابني، فلما رأى الفعلة الابن قالوا: هذا هو الوارث تعالوا نقتله ونأخذ ميراثه، فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم وقتلوه، فإذا جاء رب البيت ماذا يفعل بهؤلائك الفعلة؟ قالوا له: يهلكهم ويدفع الكرم إلى فعلة آخرين ليعطوه ثمرته في حينه، قال لهم يسوع: أما قرأتم [قط] في الكتب أن الحجر الذي رذله البناؤون صار رأس الزاوية، هذا كان من قبل الرب وهو عجب في أعيننا، من هذا أقول لكم: إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمم يصنعون ثمرتها، ومن سقط على هذا الحجر ترضض، ومن سقط عليه طحنه. فلما سمع رؤساء الكهنة والفريسيون أمثاله علموا أنه يقول من أجلهم، فهموا أن يمسكوه وخافوا من الجموع لأنه كان عندهم مثل نبي. وقال أيضا: يشبه ملكوت السماء رجلا صنع عرسا لابنه، فأرسل عبيده ليدعوا المدعوين إلى العرس، فلم يريدوا أن يأتوا، ثم أرسل عبيدا آخرين وقال: قولوا للمدعوين: إن طعامي معد، وعجولي المعلوفة قد ذبحت وكل شيء معد، فتعالوا إلى العرس، فتكاسلوا [ ص: 115 ] وذهبوا فمنهم إلى حقله ومنهم إلى تجارته والبقية أمسكوا عبيده وشتموهم وقتلوهم، فلما بلغ الملك غضب وأرسل جنده وأهلك هؤلائك القتلة وأحرق مدينتهم; حينئذ قال لعبيده: أما العرس فمستعد، والمدعوون فغير مستحقين، اذهبوا إلى مسالك الطريق وكل من وجدتموه ادعوه إلى العرس، فخرج أولئك العبيد إلى الطرق فجمعوا كل من وجدوا أشرارا وصالحين، فامتلأ العرس من المتكئين، فلما دخل الملك لينظر إلى المتكئين رأى هناك رجلا ليس عليه ثياب العرس [فقال: يا هذا! كيف دخلت هاهنا وليس عليك ثياب العرس؟] فسكت، حينئذ قال الملك للخدام: شدوا يديه ورجليه وأخرجوه إلى الظلمة البرانية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان، ما أكثر المدعوين وأقل المنتخبين. وعبارة لوقا عن ذلك: إنسان صنع وليمة عظيمة ودعا كثيرا فأرسل عبده يقول للمدعوين يأتون فهو ذا كل شيء معد، فبدأوا بأجمعهم يستعفون، فالأول قال: قد اشتريت كرما والضرورة تدعوني إلى الخروج ونظره، فأسألك أن تعفيني فما أجيء، وقال آخر: قد اشتريت خمسة أزواج بقر وأنا ماض أجربها، أسألك أن تعفيني فما أجيء، وقال آخر: قد تزوجت امرأة، لأجل ذلك ما أقدر أجيء، فأتى العبد وأخبر سيده، فحينئذ غضب رب البيت وقال لعبده: اخرج [ ص: 116 ] مسرعا إلى الطريق وشوارع المدينة وادع المساكين والعور والعميان والمقعدين، اخرج إلى الطريق والسياجات وألح عليهم حتى يدخلوا ويمتلئ بيتي ولا أجد من هؤلائك يذوق لي عشاء. وقال يوحنا: الحق أقول لكم: إن من لا يدخل من الباب إلى حظيرة الخراف، بل يتسور من موضع آخر فإن ذلك لص، الذي يدخل من الباب هو راعي الخراف، والبواب يفتح له، والخراف تسمع له، وكباشه تتبعه لأنها تعرف صوته، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف، فأما الآخر الذي ليس براع وليست الخراف له، فإذا رأى الذئب قد أقبل يدع الخراف ويهرب، فيأتي الذئب ويخطف ويبدد الخراف، وإنما يهرب الأجير لأنه مستأجر وليس يشفق على الخراف، أنا الراعي الصالح، ولي كباش أخر ليست من هذا القطيع، فينبغي لي أن آتي بهم أيضا، فتكون الرعية واحدة، فوقع أيضا بين اليهود خلف من أجل هذا القول وقال كثير منهم: إن به شيطانا قد جن، فما استماعكم منه! وقال آخرون: إن هذا ليس كلام مجنون. وفي أوائل السيرة الهشامية: قال : [ ص: 117 ] وقد كان فيما بلغني عما كان وضع ابن إسحاق عيسى ابن مريم فيما جاءه من الله في الإنجيل من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أثبت يحنس الحواري لهم حين نسخ لهم الإنجيل أنه قال: من أبغضني فقد أبغض الرب، ولولا أني صنعت بحضرتهم صنائع لم يصنعها أحد قبلي ما كانت لهم خطيئة، ولكن من الآن بطروا وظنوا أنهم يعزوني وأيضا للرب، ولكن لابد من أن تتم الكلمة التي في الناموس أنهم أبغضوني مجانا - أي: باطلا، فلو قد جاء المنحمنا هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب روح القدس، هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب روح القدس، هذا الذي من عند الرب خرج، فهو شهيد علي وأنتم أيضا لأنكم قديما كنتم معي، هذا قلت لكم لكيما لا تشكوا. فالمنحمنا بالسريانية محمد، وهو بالرومية البارقليطس. انتهى.
ولما دل سبحانه عليه صلى الله عليه وسلم بأوصافه في نفسه وفي الكتب الإلهية، دل عليه بشريعته فقال: يأمرهم بالمعروف أي: بكل ما يعرفونه من التوراة والإنجيل وما يعرفونه فيهما أنه ينسخ شرعهم ويأتي من عند الله بهذا المذكور وينهاهم عن المنكر أي: عن كل ما ينكرونه فيهما، فثبتت بذلك رسالته، فأنه لكونه أميا لا يعرف المعروف والمنكر فيهما إلا وهو صادق عن علام الغيوب، ثم شرع [ ص: 118 ] بعد ثبوت رسالته يبين لهم ما في رسالته من المنة عليهم بالتخفيف عنهم بإباحة ما كانوا قد حملوا ثقل تحريمه، فكانوا لا يزالون يعصون الله بانتهاك حرماته والإعراض عن تبعاته فقال: ويحل لهم الطيبات أي: التي كانت حرمت عليهم عقوبة لهم كالشحوم ويحرم عليهم [وعبر بصيغة الجموع إشارة إلى أن الخبيث أكثر من الطيب في كل مائي الأصل فقال]: الخبائث أي: كل ما يستخبثه الطبع السليم أو يؤدي إلى الخبث كالخمر المؤدية إلى الإسكار والرشى المؤدية إلى النار بعد قبيح العار ويضع عنهم إصرهم أي: ثقلهم الذي كان حمل عليهم فجعلهم لثقله كالمحبوس الممنوع من الحركة والأغلال التي كانت عليهم أي: جميع ما حملوه من الأثقال التي هي لثقلها وكراهة النفوس لها كالغل الذي يجمع اليد إلى العنق فيذهب القوة فالذين آمنوا به أي: أوجدوا بسببه الأمان من التكذيب بشيء من آيات الله وعزروه أي: منعوه من كل من يريده بسوء وقووا يده تقوية عظيمة على كل من يكيده: قال في القاموس: والتعزير: ضرب دون الحد أو هو أشد الضرب، والتفخيم والتعظيم ضد، والإعانة كالعزر والتقوية والنصر - انتهى.
وقال العزر: المنع، تقول: عزرت فلانا عن كذا، أي: منعته. انتهى. فالمادة كلها تدور على هذا المعنى والضرب واضح فيه التعظيم وما في معناه منع من يكيده عبد الحق: ونصروه أي: : أيدوه [ ص: 119 ] وقمعوا مخالفه واتبعوا النور أي: الوحي من القرآن والسنة الذي أنـزل معه أي: مصاحبا إنزاله إرساله، سمي نورا لأنه يجعل المقتدي به ببيان طريق الحق كالماشي في ضوء النهار أولئك هم أي: خاصة المفلحون أي: الفائزون بكل مأمول.
ولما تراسلت الأي: وطال المدى في أقاصيص موسى عليه السلام وبيان مناقبه العظام ومآثره الجسام، كان ذلك ربما أوقع في بعض النفوس أنه أعلى المرسلين منصبا وأعظمهم رتبة، فساق سبحانه هذه الآيات هذا السياق على هذا الوجه الذي بين أن أعلاهم مراتب وأزكاهم مناقب الذي خص برحمته من يؤمن به من خلقه قوة أو فعلا، وجعل سبحانه ذلك في أثناء قصة بني إسرائيل اهتماما به وتعجيلا له مع ما سيذكر مما يظهر أفضليته ويوضح أكمليته بقصته مع قومه في مبدإ أمره وأوسطه ومنتهاه في سورتي الأنفال وبراءة بكمالها.
ذكر شيء من الآصار التي كانت عليهم وخففت عنهم لو دخلوا في الإسلام ببركته صلى الله عليه وسلم غير ما أسلفته في آخر البقرة عند قوله تعالى: ولا تحمل علينا إصرا وفي المائدة عند قوله تعالى: وليحكم أهل الإنجيل قال في السفر الثاني من التوراة: [و] قال الرب لموسى: اعمد فخذ طيبا، إلى أن قال: وليكن معجونا طيبا للقدس ودقه واسحقه وبخر منه قدام تابوت الشهادة في قبة الزمان [ ص: 120 ] لأواعدك إلى هناك، ويكون عندكم طهرا مخصوصا، وأيما رجل اتخذ مثله ليتبخر به فليهلك ذلك الرجل من شعبه; وقال في الثالث: ثم موسى قال له: كلم كلم الرب هارون وبنيه وجماعة بني إسرائيل وقل لهم: هذا ما أمرني به الرب أن أخبركم، أي رجل من بني إسرائيل يذبح في محلة بني إسرائيل أو يذبح خارجا من العسكر ولا يجيء بقربانه إلى باب قبة الزمان ليقربه يعاقب ذلك الرجل عقوبة من قتل قتيلا; وكلم الرب موسى وقال له: كلم هارون وقل له: من كان عيب من نسلك - أي: من الأحبار - في جميع الأحقاب لا يدنو من مقدسي، لا يقرب قربانا مثل الرجل الأعرج والأعمى والأفطس والأصمع الأذن أو رجل مسكور اليد أو رجل قصير أو منحن أو رجل قد أشتر حاجباه أو أجهر العين أو من في عينه بياض أو أبرص أو أحدب أو رجل له خصية واحدة، أي رجل كان فيه عيب [من] نسل هارون الكاهن لا يدنو من المذبح ليقرب قربان الرب لأن فيه عيبا; وقال في السفر الرابع وهو [من] الحجج على أن التوراة لم تنزل جملة: وكلم الرب موسى في برية سيناء في السنة الثانية لخروج بني إسرائيل من مصر في الشهر الأول وقال: تعمل بنو إسرائيل الفصح في وقته في أربعة عشر يوما من هذا الشهر، إلى أن قال: وعملوا الفصح، والقوم الذين تنجسوا بأنفس الناس لم يقدروا أن يعملوا الفصح فقالوا: قد تنجسنا بأنفس الناس، أي: مسسنا ميتا، فهل يحرم علينا عمل الفصح؟ فقال لهم موسى: [ ص: 121 ] قوموا في مواضعكم حتى تسمعوا ما يأمر الرب فيكم، وكلم الرب موسى وقال له: قل لهم: الرجل إذا تنجس منكم لميت أو كان في مكان بعيد يعمل فصحا للرب في أربعة عشر يوما من الشهر الثاني، ومن كان زكيا ولم يكن مسافرا ولم يعمل الفصح في وقته تهلك تلك النفس من بين بني إسرائيل، وقال قبل ذلك: وكلم الرب موسى وقال له: مر بني إسرائيل أن يخرجوا من عسكرهم كل من به برص أو سلس وكل من كان نجسا بنفسه ذكرا كان أو أنثى، يخرجونهم خارج العسكر، ولا تنجسوا عساكركم لأني نازل بينكم; ثم ذكر الرجل إذا غار على امرأته واتهمها، إنه يأتي الكاهن فيقيمها ويلقنها لعنا، فإذا قالته كتبه وأخذ ماء مقدسا في وعاء فخار ووضع فيه من الترب الذي أسفل المذبح وسقاه لها، فإن كانت خانت انتفخ بطنها وفسد فخذاها وتصير لعنة في شعبها، وإن كانت لم تخن تطهرت وولدت ذكرا، ثم أمرهم بذبح بقرة وإحراقها حتى تصير رمادا، ويغسل الحبر الذي ذبحها ثيابه ويديه، فكل من يقترب إلى ميت أو ميتة يكون نجسا سبعة أيام، وينضح عليه من ذلك الماء في اليوم الثالث واليوم السابع ويتطهر، وإن لم يرش عليه كذلك فلا يتطهر، وكل من دنا من إنسان ميت ولا ينضح عليه من ذلك الماء فقد نجس جناب الرب، فلتهملك تلك النفس لأنه لم ينضح عليه من ماء الرش شيء، فلذلك يكون نجسا ولا يفارقه نجاسته، وهذه [ ص: 122 ] سنة الإنسان إذا مات في قبة الزمان، فكل من [كان] هناك في القبة وكل من يدخلها يكون نجسا [سبعة أيام، وكل وعاء يكون مكشوفا غير مغطى نجسا]، وكل من دنا من قتيل أو يمس عظم إنسان أو يدخل القبر يكون نجسا سبعة أيام ويؤخذ للمتنجس من رماد البقرة ويصيب في وعاء ماء عذب وينضح منه - على كيفية ذكرها - ليكون زكيا، ومن تنجس ولم يرش عليه من ذلك الماء تهلك نفسه من جماعتها، ومن دنا من ماء الرش يكون نجسا إلى الليل، [ومن اقترب إلى ذلك الذي تنجس يكون نجسا إلى الليل]; ثم قال: ثم كلم الرب موسى وقال له: مر بني إسرائيل وقل لهم: قرابتي يكون محفوظة في أوقاتها - ثم ذكر له كثيرا من أمر القرابين، ثم ذكر من أوقاتها يوم السبت ورؤوس الشهور، ثم قال: وفي أربع عشرة ليلة من الشهر الأول هو فصح الرب، ويوم خمسة عشر اتخذوه عيدا، وكلوا الفطير سبعة أيام، [وصيروا] أول يوم من السبعة مميزا مطهرا لا تعملوا فيه عملا، واليوم السابع يكون مميزا مطهرا لا تعملوا فيه عملا، وأول يوم من الشهر السابع يكون مختصا مطهرا، لا تعملوا فيه عملا [ ص: 123 ] مما يعمل، بل صيروه يوما يهتف فيه بالقرون، وقربوا ذبائح كاملة - ثم وصفها وكذا غيره من الأيام ثم قال: وكذلك فافعلوا في أول الشهر أبدا، وفي عشر من الشهر السابع اجعلوه يوما مختصا، مطهرا لا تعملوا فيه عملا، ولكن قربوا، ويوم خمسة عشر من هذا الشهر السابع، ويكون مدعوا، لا تعملوا فيه عملا، بل اتخذوه عيدا للرب سبعة أيام; ثم قال: حتى إذا كان اليوم الثامن فاحتفلوا بأجمعكم، ولا تعملوا شيئا مما يعمل، وقربوا قرابين كاملة - وأطال في ذلك جدا على كيفيات حفظها فضلا عن العلم بها في غاية المشقة; ثم قال: قربوا للرب في أيام أعيادكم غير نذوركم وغير خواصكم التي تختصون للرب; ثم قال مخاطبا للمجاهدين في مدين: وأما أنتم فانزلوا خارجا من العسكر سبعة أيام، كل من قتل نفسا أو مس قتيلا ينضح عليه من ماء التطهير في الثالث والسابع - وأمرهم بأشياء من الآصار ثم قال: وتطهروا بالماء في اليوم السابع، ثم بعد ذلك تدخلون العسكر; ثم قال في الخامس: هذه السنن والأحكام التي يجب عليكم أن تعملوها وتحفظوها في الأرض التي يعطيكم الله ربكم ميراثا كل أيام حياتكم، خربوا كل البلدان التي ترثونها، والآلهة التي عبدها أهلها فيها على الجبال [ ص: 124 ] الرفيعة والآكام [و] تحت كل شجرة كبيرة تظل، واستأصلوا مذابحهم وكسروا [أنصابهم، وأحرقوا أصنامهم المصنوعة و] أوثانهم المنحوتة، ولا تصنعوا أنتم مثل ما صنع أولئك في عبادتكم الله ربكم، ولكن المواضع التي يختار الله ربكم أن تصيروا اسمه فيها من جميع قبائلكم، وافحصوا عن محلته، وانطلقوا بجمعكم بقرابينكم الكاملة، كلوا هناك أمام الله ربكم أنتم وأهاليكم، ولا تعملوا كما يعمل هاهنا اليوم أي: قبل الوصول إلى أرض الميراث; ثم قال: انظروا لا تقربوا قرابينكم في المواضع التي تريدون، لكن في المواضع الذي يختار الرب، في حد سبط من أسباطكم; ثم قال: وإذا بنيت بيتا جديدا فحجر على البيت لئلا يقع إنسان من فوقه فليلزمك دمه، ولا تزرعن في حرثك خلطا لئلا تفسد غلة زرعك وكرمك، لا تحرث بالثور والحمار جميعا، ولا تنسج ثوبا من قطن وصوف جميعا، اعمل خيوطا في أربعة أطراف ردائك الذي تلبس; ثم قال: وإن وجد رجل فتاة عذراء لم تملك، فيظفر بها ويضاجعها ويوجد، يدفع إلى أبيها خمسين مثقالا من فضة، وتصير امرأته لأنه فضحها، ولا يقدر أن يطلقها حتى يموت.
ولا يدخل [ ص: 125 ] ولد الزنا إلى بيت الرب، ولا يدخل نسله من بعده إلى عشرة أحقاب، ولا يدخل عماني ولا مؤابي إلى بيت الرب، ولا يدخل نسلهما من بعدهما إلى عشرة أحقاب؛ لأنهم لم يضيفوكم ولم يعشوكم بالخبز والماء حيث خرجتم من أرض مصر، ولأنهم اكتروا بلعام بن بعور من فتورام من بين النهرين - وهي حران - ليلعنكم، ولم يحب الرب أن يسمع قول بلعام بن بعور، وقلب الله لعنه إلى الدعاء؛ لأن الله ربكم أحبكم، فلا تريدوا لهم الخير أيام حياتكم، لا تدفعوا الأدومي عنكم لأنه أخوكم، ولا تبعدوا المصري أيضا لأنكم كنتم سكانا بأرض مصر، وإن كان في معسكركم رجل أصابته جنابة، يخرج خارج العسكر، ولا يجلس بين أصحابه في العسكر، وإذا كان العشي فليستحم بالماء، وإذا غابت الشمس وأمسى يدخل العسكر، وليكن لكم موضع معروف خارج العسكر تخرجون إليه إلى الخلاء، ويكون على سلاحكم وتد من حديد، فإذا جلستم للخلاء احفروا موضعا للخلاء وغطوا رجيعكم؛ لأن الله ربكم معكم في العسكر لينقذكم ويدفع عنكم أعداءكم، فليكن عسكركم مطهرا [ ص: 126 ] مزكيا لئلا يرى فيكم أمرا قبيحا، فيرتفع عنكم ولا يصحبكم; ثم قال: وإن سكن أخوان جميعا ومات أحدهما ولم يخلف ولدا، لا تتزوج امرأته من رجل غريب، ولكن يتزوج بها وارثه ويقيم زرعا، وأول ولد تلد ينسب إلى أخيه الذي مات، ويقال إنه ابن ذلك الذي مات ولم يخلف ولدا؛ لئلا يبيد اسمه من بني إسرائيل، وإن لم يعجب الرجل أن يتزوج امرأة أخيه، ترتفع امرأة أخيه إلى المشيخة فيدعونه، فإن ثبت على قوله تتقدم إليه المرأة بين يدي المشيخة وتخلع خفيه من قدميه وتبصق في وجهه وتقول: كذلك يصنع بالرجل الذي لا يحب أن يبني بيتا لأخيه، ويدعى اسمه بين بني إسرائيل: صاحب خلع الخفين، وإن شاجر الرجل صاحبه فدنت امرأة أحدهما لتخلص زوجها من الذي يقاتله، فتمد يدها إلى مذاكير الرجل، يقطع يدها ولا يشفق عليها ولا يترحم. انتهى. وكل هذه الآصار على النصارى أيضا ما لم يرد في الإنجيل نسخها.