ولما أخبر تعالى أنهم تركوا السنة في تهذيب أنفسهم بالاقتداء في الاهتداء بالأصفياء من أسلافهم وبين بطلان ما هم عليه الآن من كل وجه وأوضح أنه محض الضلال بين أنه عاقبهم على ذلك بأن صيرهم دعاة إلى الكفر ، لأن سنته الماضية سبقت ولن تجد لسنته تحويلا أن من أمات سنة أحيا على يديه بدعة عقوبة له . قال : لأنهما متناوبان في الأديان تناوب المتقابلات في الأجسام فقال تعالى معجبا منهم عاطفا على قوله : الحرالي وقالوا لن يدخل وقالوا أي : الفريقان من أهل الكتاب لأتباع الهدى كونوا هودا أو نصارى تهتدوا أي : لم يكفهم ارتكابهم للباطل وسلوكهم طرق الضلال حتى دعوا إلى ما هم عليه ووعدوا بالهداية الصائرة إليه فأمره تعالى بأن [ ص: 184 ] يجيبهم أنه مستن بسنة أبيهم لا يحول عنها كما حالوا فقال موجها الخطاب إلى أشرف خلقه لعلو مقام ما يخبر به وصعوبة التقيد به على النفس : قل بل مضربا عن مقالهم ، أي : لا يكون شيئا مما ذكرتم بل نكون أو نلابس أنا ومن لحق بي من كمل أهل الإسلام ملة إبراهيم ملابسة نصير بها إياها كأننا تجسدنا منها ، وهو كناية عن عدم الانفكاك عنها ، فهو أبلغ مما لو قيل : بل أهل ملة إبراهيم . قال : ففيه كمال تسنن الحرالي محمد صلى الله عليه وسلم في ملته بملة إبراهيم عليه السلام الذي هو الأول لمناسبة ما بين الأول والآخر ، وقد ذكر أن الملة ما أظهره نور العقل من الهدى في ظلم ما التزمه الناس من عوائد أمر الدنيا ، فكان أتم ما أبداه نور العقل ملة إبراهيم حنيفا أي [ ص: 185 ] لينا هشا سهلا قابلا للاستقامة مائلا مع داعي الحق منقادا له مسلما أمره إليه ، لا يتوجه إليه شيء من العشاوة والكثافة والغلظة والجمود التي يلزم منها العصيان والشماخة والطغيان ، وذلك لأن مادة حنف بكل ترتيب تدور على الخفة واللطافة ، ويشبه أن تكون الحقيقة الأولى منها النحافة ، ويلزم هذا المعنى الانتشار والضمور والميل ، فيلزمه سهولة الانقياد والاستقامة ، ويكشفه آية آل عمران
ولكن كان حنيفا مسلما فبذلك حاد عن بنيات طرق الخلق في انحرافهم عن جادة طريق الإسلام . وقال : الحنيف المائل عن متغير ما عليه الناس عادة إلى ما تقتضيه الفطرة حنان قلب إلى صدق حسه الباطن . الحرالي
ولما أثبت له الإسلام بالحنيفية نفى عنه غيره بقوله : وما كان [ ص: 186 ] من المشركين قال : فيه إنباء بتبرئة كيانه من أمر الشرك في ثبت الأمور والأفعال والأحوال وفي إفهامه أنه من أمر الحرالي محمد صلى الله عليه وسلم في الكمال الخاتم كما أن محمدا صلى الله عليه وسلم منه في الابتداء الفاتح ، قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : قل إن صلاتي إلى قوله : وأنا أول المسلمين فهذه أولية رتبة الكمال التي هي خاصة به ومن سواه فهو منه فيها ، لأن نفي الشيء يفهم البراءة واللحاق بالمتأصل في مقابله ، فمن لم يكن مثلا من الكافرين فهو من المؤمنين ، لأنه لو كان هو المؤمن لذكر بالصفة المقابلة لما نفى عنه ، لما في ذلك من معنيي إثبات الوصف ونفي مقابله ، ومثل هذا كثير الدور في خطاب القرآن ، وبين من له الوصف ومن هو منه تفاوت ما بين السابق واللاحق في جميع ما يرد من نحوه يعني ومثل هذا التفاوت ظاهر للفهم خفي عن [ ص: 187 ] مشاهد العلم ، لأن العلم من العقل بمنزلة النفس ; والفهم من العقل بمنزلة الروح ، فللفهم مدرك لا يناله العلم ، كما أن للروح معتلى لا تصل إليه النفس ، لتوجه النفس إلى ظاهر الشهود ووجهة الروح إلى علي الوجود . انتهى .