ولما كان للصابر الثاني البشرى بالسلامة من عقوبة الآخرة ومنالهم لما نولهم وشتان بين من كان الله معه وبين من قيل لنبيه بشره بصبره على بلاء التخلف ، وما كان للأنفس مدخل في تحمل الصبر شرفا وحفيظة على الأحساب والرتب الدنيوية خلص تعالى الصابرين له من الصابرين تطبعا وتحاملا فقال : الذين إذا أصابتهم من الإصابة [ ص: 258 ] وهو وقوع المسدد على حد ما سدد له من موافق لغرض النفس أو مخالف لها مصيبة خصيصة عرف الاستعمال بما لا يوافق تكرها لخصوص ذكره . انتهى . والمراد أي مصيبة كانت ولو قلت وضعفت بما أفهمه تأنيثه الفعل قالوا إنا لله أي : الملك المحيط بكل شيء إسلاما بأنفسهم لربهم فهو يفعل بنا من هذه المصيبة وغيرها ما يريد فهو المسؤول [في ] أن يكون ذلك أصلح لنا .
ولما كان التقدير بيانا لكونهم لله تقريرا للاستسلام به : نحن مبتدئون ، عطف عليه وإنا إليه أي : لا إلى غيره راجعون [ ص: 259 ] معنى في أن جميع أمورنا لا يكون شيء منها إلا به وحسابا لبعث وظهور ذلك بعده ظهورا تاما . قال : لتكون ذلك غاية في إسلام ثمراتهم وأموالهم وما نقصوا من أنفسهم ، فحين لم يجاهدوا في سبيل الله فأصابتهم المصائب كان تلافيهم أن يسلموا أمرهم لله ويذكروا مرجعهم إليه ويشعروا أن ما أخذ من أنفسهم وما معها ذخيرة عنده ، فيكون ذلك شاهد إيمانهم ورجائهم للقائهم فتقع مجاهدتهم لأنفسهم في ذلك بموقع جهادهم في سبيل الله الذي فاتهم وجعلها جامعة مطلقة لكل الحرالي وتلاقاه الله بالاهتداء إلى ما تقاصر عنه ذلك قال : من أصابته مصيبة فاسترجع بها ثبت أجره بما أصيب أولئك خطابا لنبيه واستحضارا لهم بمحل بعد عن قربه وغيبة عن إقباله عليهم . قال : عليهم صلوات ، قال : صلاة الله على عباده هي إقباله عليهم بعطفه إخراجا لهم من حال ظلمة إلى رفعة نور هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور فبصلاتهم عليهم إخراجهم من جهات ما أوقعهم في وجوه تلك الابتلاءات ، فلذلك كان ذلك صلوات بالجمع ولم يكن صلاة ليعدد ما أصابهم منه عدد تلك الابتلاءات ، وفي قوله تعالى : من ربهم إشعار بتدريجهم في ذلك [ ص: 260 ] بحكم تربية وتدارك الأحوال ما أصابهم ، قال تعالى : ورحمة إفراد لمنالها لهم بعد متقدم الصلوات عليهم ، فنالتهم الرحمة جمعا حين أخرجتهم الصلوات أفرادا . قال تعالى : وأولئك إشارة إلى الذين نالتهم الصلوات والرحمة فأبقاهم مع ذلك في محل بعد في الحضرة وغيبة في الخطاب هم المهتدون فجاء بلفظ " هم " إشعارا بصلاح بواطنهم عما جره الابتلاء من أنفسهم . انتهى . والذي يلوح [ ص: 261 ] لي أن أداة البعد في أولئك إشارة إلى علو مقامهم وعز مرامهم ، ولذا عبر عن هدايتهم بالجملة الاسمية على وجه يفهم الحصر ; والصلاة الإنعام بما يقتضي التشريف ، والرحمة الإنعام بما يقتضي العطف والتحنن - والله سبحانه وتعالى الموفق ; وفي ذلك إشارة إلى الأمر بالإعراض عن أهل الكتاب فيما يطعنون عليهم به بألسنتهم والإملاء لهم إلى حين الإذن في مطاعنتهم بالرماح ومصالتتهم ببيض الصفاح ، كما في الآية الأخرى لتبلون في أموالكم وأنفسكم إلى آخرها ويمكن أن يراد "بالخوف الجهاد" . وبالجوع الصوم ، وبنقص الأموال زكاة الصامت من المال ، وبالأنفس زكاة الحيوان ، وبالثمرات زكاتها ; لكن الأنسب لافتتاح الآية واختتامها وما تقدمها وتلاها أن تكون مقصورة على الجهاد .