ولما أخبر سبحانه وتعالى أن الدعاء لا يزيدهم إلا نفورا رقي الخطاب [من الناس ] إلى أعلى منهم رتبة فقال آمرا لهم أمر إباحة أيضا وهو إيجاب في تناول ما يقيم البينة ويحفظها : يا أيها الذين آمنوا كلوا . وقال : لما كان تقدم الخطاب في أمر الدين في رتبتين أولاهما الحرالي يا أيها الناس اعبدوا ربكم وثانيتهما يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا فأمر الناس فيه بالعبادة وأمر الذين آمنوا بحسن الرعاية مع النبي صلى الله عليه وسلم ، كذلك هنا أمر الناس [ ص: 336 ] بالأكل مما في الأرض ونهى عن اتباع خطوات الشيطان ، وأشعر الخطاب بأنهم ممن يتوجه الشيطان نحوهم للأمر بالسوء والفحشاء والقول بالهوى ، وأمر الذين آمنوا بالأكل من طيبات فأعرض في خطابهم عن ذكر الأرض لتناولهم الرزق من السماء ، فإن كما قال للسوداء : أدنى الإيمان عبادة من في السماء واسترزاق من في السماء قال سبحانه وتعالى : "أين الله ؟ قالت : في السماء ، قال : أعتقها فإنها مؤمنة" وفي السماء رزقكم فأطعم الأرضيين وهم الناس مما في الأرض وأطعم السماويين وهم الذين آمنوا من رزق السماء كذلك ، وخص هذا الخطاب بلفظ الحلال لما كان آخذا رزقه من السماء متناولا طيبة لبراءته من حال مما في الأرض مما شأنه ضر في ظاهر أو أذى في باطن ، ولذلك "ولو كانت الدنيا دما عبيطا لكان قوت المؤمن منها حلالا" ، فالمسترزق من السماء يصير المحرم له حلالا لأخذه منه عند الضرورة تقوتا لا تشهيا ، ويصير الحلال له طيبا لاقتناعه منه [ ص: 337 ] بالكفاف دون التشهي يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وفي مورد هذين الخطابين بيان أن كلمة " للناس " واقعة على سن من أسنان القلوب وكلمة الذين آمنوا واقعة على سن فوقه وليس يقع على عموم يشمل جميع الأسنان القلبية ، فتوهم ذلك من أقفال القلوب التي تمنع تدبر القرآن ، لأن خطاب القرآن يتوجه لكل أولي سن على حسب سن قلوبهم ، لا يصلح خطاب كل سن إلا له يتقاصر عنه من دونه ولا يحتاج إليه من فوقه ، وهي أسنان متعددة : سن الإنسان ثم سن الناس ، ثم سن الذين آمنوا ، ثم سن الذين يؤمنون ، ثم سن المؤمنين ، [ثم سن المؤمنين ] حقا ، ثم سن المحسنين ; هذه أسنان سبعة خطاباتها مترتبة بعضها فوق بعض ، ومن وراء ذلك أسنان فوقها من سن الموقنين وما وراء ذلك إلى أحوال أثناء هذه الأسنان من حال الذين أسلموا والمسلمين ومن يوصف بالعقل والذكر والفكر والسماع وغير ذلك من الأوصاف التي تلازم تلك الأسنان في رتب متراقية لا يشمل أدناها أعلاها ولا ينهض أدناها لرتبة خطاب أعلاها [ ص: 338 ] إلى ما وراء ذلك من خصوص خطاب النبي صلى الله عليه وسلم فيه بما لا يليق إلا به وبمن هو منه من إله ، وفي انتظام تفصيل هذه الرتب جامعة لما يقع من معناه في سائر القرآن . انتهى . ولما كانت هذه الرتبة كما تقدم أرفع من رتبة الناس خص في خطابهم بعد بيان أن ما لم يحل خبيث فقال : من طيبات ولم يأت بذلك العموم الذي تألف به الناس .
ولما كانوا في أول طبقات الإيمان نبههم على الشكر بقوله في مظهر العظمة : ما رزقناكم وأخلصناه لكم من الشبه ، ولا تعرضوا لما فيه دنس كما أحله المشركون من المحرمات ، ولا تحرموا ما أحلوا منها من السائبة وما معها ثم صرح به في قوله [آمرا أمر إيجاب ] : واشكروا لله أي : ، [ ص: 339 ] وهذا بخلاف ما يأتي في سورة المؤمنين خطابا لأعلى طبقات الخلص وهم الرسل . وخصوا شكركم بالمنعم الذي لا نعمة إلا منه
ولما كان الشكر لا يصح إلا بالتوحيد علقه باختصاصهم إياه بالعبادة فقال : إن كنتم إياه أي : وحده تعبدون فإن اختصاصه بذلك سبب للشكر ، فإذا انتفى الاختصاص الذي هو السبب انتفى الشكر ، وأيضا إذا انتفى المسبب الذي هو الشكر انتفى الاختصاص لأن السبب واحد ، فهما متساويان يرتفع كل واحد منهما بارتفاع الآخر . وقال : ولما كان هذا الخطاب منتظما لتناول الطيب والشكر وحقيقته البذل من الطيب فشكر كل نعمة إظهارها على حدها من مال أو جاه أو علم أو طعام أو شراب أو غيره وإنفاق فضلها والاقتناع منها بالأدنى والتجارة بفضلها لمبتغى الأجر وإبلاغها إلى أهلها لمؤدي [ ص: 340 ] الأمانة لأن أيدي العباد خزائن الملك الجواد "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" . فلما كان ذلك لا يتم إلا بمعرفة الله سبحانه وتعالى المخلف على من أنفق كما قال الحرالي وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه نبهوا على عهدهم الذي لقنوه في سورة الفاتحة في قوله إياك نعبد وإياك نستعين فقيل لهم : كلوا واشكروا إن كنتم إياه تعبدون ; فمن عرف الله بالكرم هان عليه أن يتكرم ومن عرف الله بالإنعام والإحسان هان عليه أن يحسن وهو شكره لله ، من أيقن بالخلف جاد بالعطية . انتهى .