ولما أخبروا بما سألوا عنه من إحدى الخصلتين المضمنتين لآية الزلزال كان ذلك موضع السؤال عن الأخرى فأجيبوا على طريق الاستئناف بقوله: كتب .
وقال : لما التف حكم الحج بالحرب تداخلت آيات اشتراكهما وكما تقدم تأسيس فرض الحج في آية الحرالي فمن فرض فيهن الحج انتظم به كتب القتال، والفرض من الشيء ما ينزل بمنزلة الجزء منه، والكتب ما خرز بالشيء فصار كالوصلة فيه، كما جعل الصوم لأن في الصوم جهاد النفس كما أن في القتال جهاد العدو، فجرى ما شأنه [ ص: 218 ] المدافعة بمعنى الكتب وما شأنه العمل والإقبال بمعنى الفرض، وهما معنيان مقصودان في الكتاب والسنة تحق العناية بتفهمهما لينزل كل من القلب في محله ويختص النية في كل واحد على وجهه وقد كان من أول منزلة آي القتال أذن للذين يقاتلون فكان الأول إذنا لمن شأنه المدافعة عن الدين بداعية من نفسه من نحو ما كانت الصلاة قبل الفرض واقعة من الأولين بداعية من حبهم لربهم ورغبتهم إليه في الخلوة به والأنس بمناجاته فالذين كانت صلاتهم حبا كان الخطاب لهم بالقتال إذنا لتلفتهم إليه في بذل أنفسهم لله الذين كان ذلك حبا لهم يطلبون الوفاء به حبا للقاء ربهم بالموت كما أحبوا لقاء ربهم بالصلاة "حين عقلوا" وأيقنوا أنه لا راحة لمؤمن إلا في لقاء ربه، فكان من عملهم لقاء ربهم بالصلاة في السلم، وطلب لقائه بالشهادة "في الحرب"، فلما اتسع أمر الدين ودخلت الأعراب والأتباع الذين لا يحملهم صدق المحبة للقاء الله على البدار للجهاد نزل كتبه كما نزل فرض الصلاة [ ص: 219 ] استدراكا فقال: كتب عليكم القتال أي أيتها الأمة! وكان في المعنى راجعا لهذا الصنف الذين يسألون عن النفقة، وبمعنى ذلك انتظمت الآية بما قبلها فكأنهم يتبلدون في الإنفاق تبلدا إسرائيليا ويتقاعدون عن الجهاد تقاعد أهل التيه منهم الذين قالوا:
" اذهب أنت وربك فقاتلا " انتهى. وهو كره وهو ما يخالف غرض النفس وهواها، ولعله لكونه لما كان خيرا عبر باللام في لكم وهذا باعتبار الأغلب وهو كما قال عند المحبين للقاء الله من أحلى ما تناله أنفسهم حتى كان ينازع الرجل منهم في أن يقف فيقسم على الذي يمسكه أن يدعه والشهادة، قال بعض التابعين: لقد أدركنا قوما كان [ ص: 220 ] الموت لهم أشهى من الحياة عندكم اليوم وإنما كان ذلك لما خربوه من دنياهم وعمروه من أخراهم فكانوا يحبون النقلة من الخراب إلى العمارة - انتهى. الحرالي
ولما كان هذا مكروها لما فيه على المال من المؤونة وعلى النفس من المشقة وعلى الروح من الخطر من حيث الطبع شهيا لما فيه من الوعد بإحدى الحسنيين من حيث الشرع أشار إلى ذلك بجملة حالية فقال: وعسى أن وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة براءة من شرح معاني " عسى " ما يوضح أن المعنى: وحالكم جدير وخليق لتغطية علم العواقب عنكم بأن تكرهوا شيئا أي كالغزو [ ص: 221 ] فتعرضوا عنه لظنكم أنه شر لكم وهو أي والحال أنه خير لكم لما فيه من الظفر والغنيمة أو الشهادة والجنة فإنكم لا تعلمون والذي كلفكم ذلك عالم بكل شيء غير محتاج إلى شيء وما كلفكم ذلك إلا لنفعكم.
قال : فشهد - لهم لما لم يشهدوا مشهد الموقنين الذين يشاهدون غيب الإيمان كما يشهدون عن الحس، كما قال الحرالي ثعلبة : كأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة ينعمون وأنظر إلى أهل النار في النار يعذبون ولم يبرم لهم الشهادة ولكن ناطها بكلمة " عسى " لما علمه من ضعف قبول من خاطبه بذلك، وفي إعلامه إلزام بتنزل العلي الأدنى رتبة لما أظهر هذا الخطاب من تنزل الحق في مخاطبة الخلق إلى حد مجاوزة المترفق في الخطاب - انتهى.
ولما رغبهم سبحانه وتعالى في الجهاد بما رجالهم فيه من الخير رهبهم من القعود عنه بما يخشى فيه من الشر.
قال : فأشعر أن الحرالي - انتهى. المتقاعد له في تقاعده آفات وشر في الدنيا والآخرة ليس أن لا ينال خير الجهاد فقط بل وينال شر التقاعد والتخلف
[ ص: 222 ] فقال تعالى: وعسى أن تحبوا شيئا أي كالقعود فتقبلوا عليه لظنكم أنه خير لكم وهو أي والحال أنه شر لكم لما فيه من الذل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر وليس أحد منكم إلا قد جرب مثل ذلك مرارا في أمور دنياه، فإذا صح ذلك في فرد صار كل شيء كذلك في إمكان خيريته وشريته فوجب ترك الهوى والرجوع إلى العالم المنزه عن الغرض ولذلك قال عاطفا على ما تقديره: فالله قد حجب عنكم سر التقدير والله أي الذي له الإحاطة الكاملة يعلم أي له علم كل شيء وقد أخبركم في صدر هذا الأمر أنه رءوف بالعباد فهو لا يأمركم إلا بخير.
وقال : شهادة بحق العلم يرجع إليها عند الأغبياء في تنزل الخطاب - انتهى. الحرالي
والآية من الاحتباك ذكر الخير أولا دال على حذفه ثانيا وذكر الشر ثانيا دال على حذفه مثله أولا. [ ص: 223 ] ولما أثبت سبحانه وتعالى شأنه العلم لنفسه نفاه عنهم فقال: وأنتم لا تعلمون أي ليس لكم من أنفسكم علم وإنما عرض لكم ذلك من قبل ما علمكم فثقوا به وبادروا إلى كل ما يأمركم به وإن شق.
وقال : فنفى العلم عنهم لكلمة "لا" أي التي هي للاستقبال حتى تفيد دوام الاستصحاب الحرالي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا قال من حيث رتبة هذا الصنف من الناس من الأعراب وغيرهم، وأما المؤمنون أي الراسخون فقد علمهم الله من علمه ما علموا أن القتال خير لهم وأن التخلف شر لهم - انتهى.
حتى أن علمهم ذلك أفاض على ألسنتهم ما يفيض الدموع وينير القلوب، حتى شاورهم النبي صلى الله عليه وسلم في التوجه إلى غزوة بدر فقام رضي الله تعالى عنه فقال وأحسن، ثم قام أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال وأحسن، ثم قام عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله! امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل المقداد لموسى : فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون [ ص: 224 ] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق! لو سرت إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه; فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس! فقال الأنصاري رضي الله تعالى عنه: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل، قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك. فوالذي بعثك بالحق! لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك! ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا! إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله تعالى سعد بن معاذ .