ولما علت هذه الآيات عن أقصى ما يعرفه البصراء البلغاء من الغايات، وتجاوزت إلى حد تعجز العقول عن مناله، وتضاءل نوافذ الأفهام عن الإتيان بشيء من مثاله، نبه سبحانه وتعالى على ذلك بقوله: تلك أي الآيات المعجزات لمن شمخت أنوفهم، وتعالت في مراتب الكبر هممهم ونفوسهم; والإشارة إلى ما ذكر في هذه السورة ولا سيما هذه القصة من أخبار بني إسرائيل والعبارة عن ذلك في هذه الأساليب الباهرة والأفانين المعجزة القاهرة آيات الله أي الذي علت عظمته وتمت قدرته وقوته، ولما كانت الجلالة من حيث إنها اسم للذات جامعة لصفات الكمال والجمال ونعوت الجلال [ ص: 445 ] لفت القول إلى مظهر العظمة إشارة إلى إعجازهم عن هذا النظم بنعوت الكبر والتعالي فقال: نتلوها أي ننزلها شيئا في إثر شيء بما لنا من العظمة عليك تثبيتا لدعائم الكتاب الذي هو الهدى، وتشييدا لقواعده بالحق قال الإمام سعد الدين التفتازاني في شرح العقائد: الحق الحكم المطابق للواقع، يطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك ويقابله الباطل، وأما الصدق فقد شاع في الأقوال خاصة ويقابله الكذب، وقد يفرق بينهما بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع. وفي الصدق من جانب الحكم; فمعنى صدق الحكم مطابقته الواقع. ومعنى حقيته مطابقة الواقع إياه - انتهى.
فمعنى الآية على هذا: إنا عالمون بالواقع من هذه الآيات فأتينا بعبارة يطابقها ذلك الواقع لا يزيد عنها ولا ينقص، فتلك العبارة ثابتة ثبات الواقع لا يتمكن منصف عالم من إنكارها ولا إنكار شيء منها، كما لا يتمكن من إنكار الواقع المعلوم وقوعه، ويكون الخبر عنها صدقا لأنه مطابق لذلك الواقع بغير زيادة ولا نقص; والحاصل أن الحق يعتبر من جانب المخبر، فإنه يأتي بعبارة يساويها الواقع فتكون حقا، وأن الصدق يعتبر من جانب السامع، فإنه [ ص: 446 ] ينظر إلى الخبر، فإن وجده مطابقا للواقع قال: هذا صدق، وليس ببعيد أن يكون من الشواهد على ذلك هذه الآية وقوله سبحانه وتعالى والذي جاء بالصدق وصدق به وقوله قال فالحق والحق أقول بل جاء بالحق وصدق المرسلين و هو الحق مصدقا لما بين يديه وكذا وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق أي أن هذا الفعل وهو خلقنا لها لسنا متعدين فيه، وهذا الواقع يطابق خلقها لا يزيد عليه بمعنى أنه كان علينا أن نزيد فيها شيئا وليس لنا الاقتصار على ما وجد ولا ننقص عنه بمعنى أنه كان علينا أن نجعلها ناقصة عما هي عليه ولم يكن لنا إتمامها هكذا; أو بالحق الذي هو قدرتنا واختيارنا لا كما يدعيه الفلاسفة من الفعل بالذات من غير اختيار: أو بسبب الحق أي إقامته وإثباته وإبطال الباطل ونفيه، وقوله
وأتيناك بالحق وإنا لصادقون أي أتيناك بالخبر بعذابهم وهو ثابت، لأن مضمونه إذا وقع فنسبته إلى الخبر [ ص: 447 ] علمت مطابقته له أي مطابقة الواقع إياه وإخبارنا عنه على ما هو به فنحن صادقون فيه، أي نسبنا وقوع العذاب إليهم نسبة تطابق الواقع فإذا وقع نظرت إلى إخبارنا فرأيته مطابقا له فعلمت صدقنا فيه; والذي لا يدع في ذلك لبسا قوله سبحانه وتعالى حكاية عن يوسف عليه الصلاة والسلام قد جعلها ربي حقا أتى بمطابقة الواقع لتأويلها، وأما صدقه صلى الله عليه وسلم فهو بنسبة الخبر إلى الواقع وهو أنه رأى ما أخبر به وذلك موجود من حين إخباره صلى الله عليه وسلم فإن خبره كان حين إخباره به مطابقا للواقع، وأما صدق الرؤيا فباعتبار أنه كان لها واقع طابقه تأويلها; فإن قيل: تأسيس المفاعلة أن تكون بين اثنين فصاعدا يفعل أحدهما بالآخر ما يفعل الآخر به، فهب أنا اعتبرنا المطابقة من جانب واحد فذلك لا ينفي اعتبارها من الجانب الآخر فماذا يغني ما ادعيته، قيل إنها وإن كان لا بد فيها من مراعاة الجانبين لكنها تفهم أن الذي أسند إليه الفعل هو الطالب، بخلاف باب التفاعل فإنه لا دلالة لفعله على ذلك، وجملة الأمر أن الواقع أحق باسم الحق لأنه الثابت والخبر أحق باسم الصدق، والواقع [ ص: 448 ] طالب لخبر يطابقه ليعرف على ما هو عليه والخبر طالب لمطابقة الواقع له فيكتسب الشرف بتسميته صدقا.
وأول ثابت في نفس الأمر هو الواقع فإنه قبل الخبر عنه بأنه وقع، فإذا كان مبدأ الطلب من الواقع سمي الخبر باسمه، إذا كان مبدأ الطلب من الخبر سمي باسمه الحقيق به، ولعلك إذا اعتبرت آيات الكتاب الناطق بالصواب وجدتها كلها على هذا الأسلوب - والله سبحانه وتعالى الموفق.
ولما ثبت أن التلاوة عليه صلى الله عليه وسلم حق قال تعالى: وإنك أي والحال أنك لمن المرسلين بما دلت هذه الآيات عليه من علمك بها من غير معلم من البشر ثم بإعجازها الباقي على مدى الدهر .