ولما بين سبحانه بهذا المثال أنهم لم يصلوا إلى شيء غير التعب، المثمر للعطب، وكان هذا لا يفعله بنفسه عاقل، ضرب مثالا [ ص: 286 ] آخر بين الحامل لهم على الوقوع في ممثول الأول، وهو السير بغير دليل، الموقع في خبط العشواء كالماشي في الظلام، فقال عاطفا على كسراب قوله: أو للتخيير، أي أعمالهم لكونها لا منفعة لها كسراب، ولكونها خالية عن نور الحق كظلمات أو للتنويع، فإنها إن كانت حسنة الظاهر فكالسراب، أو قبيحة فكالظلمات، أو للتقسيم باعتبار وقتين كالظلمات في الدنيا والسراب في الآخرة في بحر هو مثال قلب الكافر لجي أي ذي لج هو اللج، إشارة إلى أنه عميق لا يدرك له قرار، لأن اللج معظم الماء، ويكون جمع لجة أيضا، والأوفق هنا أن يكون منسوبا إلى الجمع، لأنه أهول، والمقام للتهويل، قال القزاز في ديوانه: ولجة البحر معروفة وهو الموضع الذي لا ترى منه أرضا ولا جبلا، وبحر لجي: واسع اللجة، وجمع اللجة لجج ولج. يغشاه أي يغطي هذا البحر ويعلوه، أو يلحق الكائن فيه موج وهو مثل ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، كائن من فوقه أي هذا الموج موج آخر من فوقه أي هذا الموج الثاني المركوم على الأول سحاب قد غطى النجوم، وهو مثال الرين والختم والطبع [ ص: 287 ] على القلب، فلا سماء تبصر ولا أرض.
ولما كان هذا أمرا مهولا، أشار إلى هوله وتصويره بقوله: ظلمات أي من البحر والموجين والسحاب بعضها ولما كان المراد استغراق الجهة، لم يثبت الجار فقال: فوق بعض متراكمة، فلذلك يبعد كل البعد أن ينفذ فيها بصر، ولذلك قال: إذا أخرج أي الكائن في هذا البحر بدلالة المعنى وإن لم يجر له ذكر يده وهي أقرب شيء إليه لم يكد أي الكائن فيه يراها أي يقرب من ذلك فضلا عن أن يكون، لأن الله قد ستر عنه كل نور بهذه الظلمات المتكاثفة، وهو مثال لعمله وأنه عدم لما تقدم من أن العدم كله ظلمة، فلا عمل له يكون شيئا ولا يقرب من ذلك لأنه لا أهلية له بوجه ومن لم يجعل الله أي الملك الأعظم له نورا من الأنوار، وهو قوة الإيجاد والإظهار فما له من نور أصلا، لأنه سبحانه يستر نوره وإن كان ملء السماوات والأرض عمن يشاء بحجب الأهوية، لأنه قادر على ما يريد.