[ ص: 50 ] ولما كان ظاهر الحال فيما أصاب الكفار من المسلمين؛ في هذه الغزوة؛ ربما كان سببا في شك من لم يحقق بواطن الأمور؛ ولا له أهلية النفوذ في الدقائق؛ من عجائب المقدور؛ في قوله (تعالى): إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا قل للذين كفروا ستغلبون ؛ ذكرهم الله (تعالى) نصره لهم في غزوة "بدر"؛ وهم في القلة دون ما هم الآن بكثير؛ مشيرا لهم إلى ما أثمره توكلهم من النصر؛ وحالهم إذ ذاك حال الآيس منه؛ ولذلك كانوا في غاية الكراهة للقاء؛ بخلاف ما كانوا عليه في هذه الكرة؛ حثا على ملازمة التوكل؛ منبها على أنه لا يزال يريهم مثل ذلك النصر؛ ويذيق الكفار أضعاف ذلك الهوان؛ حتى يحق الحق؛ ويبطل الباطل؛ ويظهر دينه؛ الإسلام؛ على الدين كله؛ فقال - عاطفا على ما تقديره: "فمن توكل عليه نصره؛ وكفاه؛ وإن كان قليلا؛ فلقد نصركم الله أول النهار؛ في هذه الغزوة؛ حيث صبرتم؛ واتقيتم بطاعتكم للرسول - صلى الله عليه وسلم - في ملازمة التعب؛ والإقبال على الحرب؛ وغير ذلك؛ بما أمركم به - صلى الله عليه وسلم -؛ ولم تضركم قلتكم؛ ولا ضعفكم بمن رجع [ ص: 51 ] عنكم شيئا" -: ولقد نصركم الله ؛ بما له من صفات الجلال؛ والجمال؛ ببدر ؛ المشار إليها أول السورة؛ بقوله (تعالى): قد كان لكم آية في فئتين التقتا ؛ لما صبرتم؛ واتقيتم.
ولما كانوا في عدد يسير؛ أشار إليه بجمع القلة؛ فقال: وأنتم أذلة ؛ أي: فاذكروا ذلك؛ واجعلوه نصب أعينكم؛ لينفعكم؛ وكان الإتيان بأمر "بدر"؛ بعد آية الفشل المختتمة في الغاية من حسن النظم؛ وهو دليل أيضا على منطوق قوله (تعالى): بالحث على التوكل؛ وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ؛ كما كان أمر "أحد"؛ دليلا على منطوقها؛ ومفهومها؛ معا؛ دل على منطوقها بنصرهم أول النهار؛ عند صبرهم؛ وعلى مفهومها بإدالة العدو عليهم؛ عند فشلهم؛ آخره؛ والله الموفق; على أنك إذا أنعمت التأمل في قصة "أحد"؛ من السير؛ وكتب الأخبار؛ علمت أن الظفر فيها ما كان إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كما سيأتي الخبر به؛ في قوله (تعالى): ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ؛ فإن الصحابة - رضي الله عنهم - هزموهم - كما مضى - في أول النهار؛ حتى لم يبق في عسكرهم أحد؛ ولا بقي عند نسائهم حام؛ فلما خالف الرماة أمره - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 52 ] وأقبلوا على الغنيمة؛ أراد الله تأديبهم؛ وتعريفهم أن نصرته لنبيه - صلى الله عليه وسلم - غير محتاجة في الحقيقة إليهم؛ حين انهزموا؛ حتى لم يبق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم غير نفر يسير؛ ما يبلغون الخمسين؛ والكفار ثلاثة آلاف؛ وخيلهم مائتان؛ فاستمر - عليه الصلاة والسلام - في نحورهم؛ يحاولهم؛ ويصاولهم؛ يرامونه مرة؛ ويطاعنون أخرى؛ ويجتمعون عليه كرة؛ ويفترقون عنه أخرى؛ والله (تعالى) يمنعه منهم بأيده؛ ويحفظه بقوته؛ حتى تدلت الشمس للغروب؛ وقتل بيده - صلى الله عليه وسلم - أبي بن خلف؛ مبارزة؛ تصديقا لما كان أوعده به قبل الهجرة؛ وخالطوه غير مرة؛ ولم يمكنهم الله منه؛ ولا أقدرهم على أسر أحد من أصحابه؛ ثم ردهم خائبين؛ بعد أن تراجع إليه أصحابه في أثناء النهار؛ ولم يرجع - صلى الله عليه وسلم - من "أحد"؛ إلا بعد انصرافهم؛ ودفن من استشهد من أصحابه؛ وأما هم فاستمروا راجعين؛ ولم يلووا على أحد ممن قتل منهم؛ وهم اثنان وعشرون رجلا من سرواتهم؛ وحمال راياتهم؛ وقال الجلال الخجندي؛ في كتابه "فردوس المجاهدين": "إنه صح النقل عن - رضي الله عنهما - أنه قال: ما نصر [ ص: 53 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - في موطن من المواطن نصرته في يوم ابن عباس "أحد"؛ انتهى.
كفى على ذلك دليلا ما نقل - وسيرته أصح السير؛ في غزوة الفتح - عن قائد الجيش بـ موسى بن عقبة "أحد"؛ أنه قال - عندما عرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم – الإسلام -: "يا أبي سفيان بن حرب؛ محمد؛ قد استنصرت إلهي؛ واستنصرت إلهك؛ فوالله ما لقيتك من مرة إلا ظهرت علي؛ فلو كان إلهي محقا وإلهك مبطلا؛ لقد ظهرت عليك"؛ وإنما كانت الهزيمة وقتل من قتل؛ لحكم ومصالح لا تخفى على من له رسوخ في الشريعة وثبات قدم في السنن؛ ويمكن أن تكون هذه القصة مندرجة في حكم النهي؛ في القصة التي قبلها؛ عن طاعة فريق من أهل الكتاب؛ عطفا على قوله (تعالى): " نعمة " ؛ في قوله: واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم ؛ لتشابه القصتين في الإصغاء إلى الكفار؛ قولا؛ أو فعلا؛ المقتضي لهدم الدين من أصله؛ لأن هم الطائفتين بالفشل إنما كان من أجل رجوع عبد الله بن أبي؛ المنافق؛ حليف أهل الكتاب؛ ومواليهم؛ ومصادقهم ومصافيهم؛ ويؤيد ذلك نهيه (تعالى) ؛ في أثناء هذه؛ عن مثل ذلك؛ بقوله (تعالى): يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين ؛ ويكون [ ص: 54 ] إسناد الفعل في غدوت ؛ وأمثاله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ والمراد الإسناد إلى الجمع؛ لأنه الرئيس؛ فخطابه خطابهم؛ ولشرف هذا الفعل؛ فكان الأليق إفراده به - صلى الله عليه وسلم -؛ وأما الفشل؛ ونحوه فأسند إليهم؛ وقصر - كما هو الواقع - عليهم.
ولما امتن الله - سبحانه - عليهم بالنصرة في تلك الكرة؛ سبب عن ذلك أمرهم بالتقوى؛ إشارة إلى أنها السبب لدوام النعمة؛ فقال: فاتقوا الله ؛ أي: في جميع أوامره؛ ونواهيه؛ مراقبين له؛ بذكر جميع جلاله؛ وعظمته؛ وكماله؛ لعلكم تشكرون ؛ وقد استشكل هذا بأن التقوى التنزه عن المعاصي؛ والشكر فعل ينبئ عن تعظيم المنعم؛ وشكر الله صرف جميع ما أنعم به في طاعاته؛ فحينئذ التقوى من الشكر؛ فإن أريد العموم انحل الكلام إلى: "اشكروا لعلكم تشكرون"؛ ولا يتحرر الجواب إلا بعد معرفة حقيقة التقوى لغة; قال الإمام في كتابه "الواعي": "الواقية: ما وقاك الشر؛ وكل شيء وقيت به شيئا فهو وقاء له؛ ووقاية"؛ وقوله - سبحانه وتعالى -: " لعلكم تتقون " ؛ قال عبد الحق؛ ابن عرفة: "أي: لعلكم أن تجعلوا بقبول ما آمركم به وقاية بينكم وبين النار"؛ انتهى.
فاتضح أن حقيقة فاتقوا اجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية؛ وأن [ ص: 55 ] سبب اتخاذ الوقاية الخوف من ضار؛ فالظاهر - والله أعلم - أن "فاتقوا"؛ بمعنى: خافوا - مجازا مرسلا؛ من إطلاق اسم المسبب على السبب -؛ فالمعنى: "خافوا الله لتكونوا على رجاء من أن يحملكم خوفه على طاعته؛ على سبيل التجديد؛ والاستمرار"؛ ولئن سلمنا أن التقوى من الشكر؛ فالمعنى: "اشكروا هذا الشكر الخاص ليحملكم على جميع الشكر"؛ وغايته أنه نبه على أن هذا الفرد من الشكر؛ هو أصل الباب؛ الذي يثمر باقيه؛ وهو المراد بقول في السيرة: "إن المعنى: فاتقوني؛ فإنه شكر نعمتي"؛ ويجوز أن يكون: "لعلكم تزدادون نعما؛ فتشكرون عليها - إقامة للمسبب مقام السبب - والله أعلم. ابن هشام