ولما خيلهم بهذا الكلام الذي يمكنه توجيهه، شرع في وعظهم إظهارا للنصيحة لهم والتحسر عليهم فقال مذكرا لهم بنعمة الله عليهم محذرا لهم من سلبها مستعطفا بذكر أنه منهم: يا قوم وعبر بأسلوب الخطاب دون التكلم تصريحا بالمقصود فقال: لكم الملك ونبه على ما يعرفونه من تقلبات الدهر بقوله: اليوم وأشار إلى ما عهدوه من الخذلان في بعض الأزمان بقوله: ظاهرين أي غالبين على بني إسرائيل وغيرهم، وما زال أهل البلاء يتوقعون الرخاء، وأهل الرخاء يتوقعون البلاء، ونبه على الإله الواحد القهار الذي له ملك السماوات فملك الأرض من باب الأولى، بقوله معبرا بأداة الظرف الدالة على الاحتياج ترهيبا لهم: في الأرض أي أرض مصر التي هي لحسنها وجمعها المنافع كالأرض كلها، قد غلبتم الناس عليها.
ولما علم من هذا أنهم لا يملكون جميع الكون، تسبب عنه أن المالك للكل هو الإله الحق والملك المطلق الذي لا مانع لما يريد، فلا ينبغي لأحد من عبيده أن يتعرض إلى ما لا قبل له به من سخطه، فلذلك قال: فمن ينصرنا أي أنا وأنتم، أدرج نفسه فيهم عن ذكر الشر بعد إفراده لهم بالملك إبعادا للتهمة وحثا على قبول النصيحة: من بأس الله أي الذي له الملك كله، ونبه بأداة الشك على أن عذابه لهم أمر ممكن، والعاقل من يجوز الجائز ويسعى [ ص: 58 ] في التدرع منه فقال: إن جاءنا أي غضبا لهذا الذي يدعي أنه أرسله، ويجوز أن يكون صادقا، بل يجب اعتقاد ذلك لما أظهره من الدلائل، وفي قوله هذا تسجيل عليهم بأنهم يعرفون أن الله ملك الملوك ورب الأرباب، وكذا قول موسى عليه السلام لقد علمت ما أنـزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض وأن ادعاء فرعون الإلهية إنما هو محض عناد.
ولما سمع فرعون ما لا طعن له فيه، فكان بحيث يخاف من بقية قومه إن أفحش في أمر هذا المؤمن، فتشوف السامع لجوابه، أخبر تعالى أنه رد ردا دون رد بقوله: قال فرعون أي لقومه جوابا لما قاله هذا المؤمن دالا بالحيدة عن حاق جوابه على الانقطاع بالعجز عن نقض شيء من كلامه: ما أريكم أي من الآراء إلا ما أرى أي إنه الصواب على قدر مبلغ علمي، أي إن ما أظهرته لكم هو الذي أبطنه. ولما كان في كلام المؤمن تعريض في أمر الهداية، وكان الإنسان ربما يتوافق قلبه ولسانه، ويكون تطابقهما على ضلال، قال: وما أهديكم أي بما أشرت به من قتل موسى عليه السلام وغيره إلا سبيل الرشاد أي الذي أرى أنه صواب، لا أبطن شيئا وأظهر غيره، وربما يكون في هذا تنبيه لهم على ما يلوح [ ص: 59 ] من كلام المؤمن لأنه ارتاب في أمره، وفي هذا أنه في غاية الرعب من أمر موسى عليه السلام لاستشارته لقومه في أمره واحتمال هذه المراجعات التي يلوح منها أنه يكاد ينفطر غيظا منه ولكنه يتجلد.