ولما تقرر أنه سبحانه ربنا وحده، وأن مدعي ربوبية ما سواه معاند، لأنه سبحانه متميز بأفعاله التي لا يشاركه فيها أحد، دل على ذلك بوجه مركوز في الطبائع صحته، واضح في العقول معرفته، كالمعلل لتسمية هذا الإنكار جحودا، فقال دالا بالخافقين بعد الدلالة بما نشأ عنهما من الملوين، وأخر هذا لأنه مع كونه أجلى سبب بقرارية الأرض وفلكية السماء لذاك، بما حصل فيه من الاختلاف، فقال: الله أي: الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء الذي جعل أي: وحده لكم الأرض أي: مع كونها فراشا ممهدا قرارا مع كونها في [ ص: 105 ] غاية الثقل، ولا ممسك لها سوى قدرته والسماء على علوها وسعتها مع كونها أفلاكا دائرة بنجوم طول الزمان سائرة، ينشأ عنها الليل والنهار والإظلام والإبصار بناء مظلة كالقبة من غير عماد حامل، ومن المعلوم لكل ذي عقل أن الأجسام الثقيلة تقتضي بطبعها تراص بعضها على بعض، فلا يمنع بعضها من السقوط على بعض إلا بقوة وقسر، فالآية من الاحتباك: ذكر القرار أولا دليلا على الدوران ثانيا، والبناء ثانيا دليلا على الفراش أولا.
ولما ذكر المسكن ذكر الساكن دالا على أنه الفاعل في الكل باختياره وتمام قدرته بتصويره الإنسان بصورة لا يشبهها صورة شيء من الحيوانات، وفاوت بين أفراده في هيئة تلك الصورة على أنحاء لا تكاد تنضبط في نفسها، ولا تشبه واحدة منها الأخرى، ولا في الخافقين شيء يشبهها محال تصويرها عليه فقال: وصوركم والتصوير على غير نظام واحد لا يكون إلا بقدرة قادر تام القدرة مختار لا كما يقول أهل الطبائع. فأحسن صوركم على أشكال وأحوال مع أنها أحسن الصور ليس في الوجود ما يشبهها، وليس فيها صورة تشبه الأخرى لتسندوا انطباع تصويرها إليه، فثبت قطعا أنه [هو] المصور سبحانه على غير مثال كما أنه الذي أبدع الموجود كله كذلك.
ولما ذكر المسكن والساكن، ذكر ما يحتاج إليه في مدة السكن [ ص: 106 ] فقال: ورزقكم من الطيبات الشهية الملائمة للطبائع النافعة على وجه لا احتياج معه بوجه، فلا دليل أدل على ووجود الاختيار من هذا التدبير في حفظ المسكن والسقف وتدبير ما به البقاء على وجه يكفي الساكن من جميع الوجوه على مر السنين وتعاقب الأزمان، وبث من الساكن - مع أنه قطعة يسيرة جدا من أديم الأرض - أنسالا شعبهم شعبا فرعها إلى فروع لا تسعها الأرض، فدبر بحكمته وسعة علمه وقدرته تدبيرا وسع لهم به الأرض، وعمهم به الرزق، كما روى تمام [العلم] وشمول القدرة ] في كتاب "الزهد" عن الإمام [أحمد أنه قال: "لما خلق الله الحسن آدم عليه الصلاة والسلام وذريته قالت الملائكة عليهم السلام: إن الأرض لا تسعهم، قال: فإني جاعل موتا، قالوا: إذا لا يهنأهم العيش، قال: فإني جاعل أملا".
ولما دل هذا قطعا على التفرد، قال على وجه الإنتاج: ذلكم أي: الرفيع الدرجات الله أي: المالك لجميع الملك، [ودلهم على ما مضى بتربيتهم وما فيها من بديع الصنائع فقال]: ربكم [أي]: لا غيره، ولما أفاد هذا الدليل تربية لا مثل لها، دالة على إحاطة العلم وتمام القدرة فإنها على وجه لا حاجة معه مع حسنه وثباته [ ص: 107 ] تسبب عنه ولا بد قوله: فتبارك أي: ثبت ثباتا عظيما مع اليمن والخير وحسن المدد والفيض الله [أي]: المختص بالكمال، [ورقى الخطاب وعظم إيضاحا للدلالة فقال]: رب العالمين كلهم أنتم وغيركم، ثم دل على ما أفاده الدليل معللا بقوله: