ولما كان الختم بهاتين الصفتين ربما أطمع في انتهاك الحرمات؛ لاتباع الشهوات؛ فكان مبعدا لمتعاطيه من الرحمة؛ مدنيا من النقمة؛ وكان أعظم المقتضيات للخذلان تضييعهم للثغر الذي أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بحفظه؛ بسبب إقبالهم؛ قبل إتمام هزيمة العدو؛ على الغنائم؛ للزيادة في الأعراض الدنيوية؛ التي هي معنى إذ هو مطلق الزيادة؛ أقبل (تعالى) عليهم بقوله: الربا في اللغة؛ يا أيها الذين آمنوا ؛ أي: أقروا بالإيمان؛ صدقوا إيمانكم بأن لا تأكلوا الربا ؛ أي: المقبح فيما تقدم أمره غاية التقبيح؛ وهو كما ترى إقبال متلطف؛ مناد لهم باسم الإيمان الناظر إلى الإنفاق؛ المعرض عن التحصيل؛ ومما رزقناهم ينفقون والمنفقين والمستغفرين بالأسحار لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ؛ ناه عن الالتفات إلى الدنيا؛ بالإقبال على غنيمة؛ أو غيرها [ ص: 64 ] بطريق الإشارة بدلالة التضمن؛ إذ المطلق جزء المقيد؛ ففي هذه العبارة التي صريحها ناه عن الإقبال على الدنيا؛ إقبالا يوجب الإعراض عن الآخرة؛ باستباحة المتقدم في "البقرة"؛ من النهي عنه؛ من المبالغة ما يردع من له أدنى تقوى؛ ويوجب لمن لم يتركه؛ وما يقاربه؛ الضمان بالخذلان في كل زمان؛ أكل الربا فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون
ولما كان في تركه الإثخان في العدو؛ بعد زوال المانع منه؛ بالهزيمة؛ مع أن فيه من حلاوة الظفر ما يجل عن الوصف؛ لأجل الغنيمة التي هي لمن غلب؛ وليس في المبادرة إلى حوزها كبير فائدة؛ دلالة على تناهي الحب للتكاثر؛ ناسب المقام ربا التضعيف؛ فقال: - أو يقال: لما كان سبب الهزيمة طلبهم الزيادة بالغنيمة؛ وكان حب الزيادة حلالا؛ قد يجر إلى حبها حراما؛ فيجر إلى الربا المضاعف؛ لأن من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه - قال: أضعافا مضاعفة ؛ أي: لا تتهيؤوا لذلك بإقبالكم على مطلق الزيادة؛ فإن المطلوب منكم بذل المال؛ فضلا عن الإعراض عنه؛ فضلا عن الإقبال عليه؛ فالحاصل أنه دلت على الربا بمطابقتها؛ [ ص: 65 ] وعلى مطلق الزيادة بتضمنها؛ وهي من وادي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه".
وختام الآية - بقوله: واتقوا الله ؛ أي: الملك الأعظم؛ لعلكم تفلحون - مشير إلى ذلك؛ أي: واجعلوا بينكم وبين مخالفة نهيه عن الربا وقاية بالإعراض عن مطلق محبة الدنيا؛ والإقبال عليها؛ لتكونوا على رجاء من الفوز بالمطالب؛ فمن له ملك الوجود؛ وملكه؛ فإنه جدير بأن يعطيكم من ملكه إن اتقيتم؛ ويمنعكم إن تساهلتم؛ فهو نهي عن الربا بصريح العبارة؛ وتحذير من أن يعودوا إلى ما صدر منهم من الإقبال على الغنائم؛ قبل انفصال الحرب فعلا؛ وقوة؛ بطريق الإشارة؛ وهي من أدلة إمامنا على استعمال اللفظ في حقيقته؛ ومجازه؛ والذي دلنا على إرادة المعنى التضمني المجازي نظمها؛ والناظم حكيم في سلك هذه القصة؛ ووضعها في هذا الموضع؛ فلا يقدح في ذلك أنه قد كان في هذه القصة أمر يصلح أن يكون سببا لنزول هذه الآية؛ ووضعها هنا؛ لأن ذلك غير لازم؛ ولا مطرد؛ فقد كان حلفه - صلى الله عليه وسلم - أنه يمثل بسبعين منهم؛ كما مثلوا بعمه [ ص: 66 ] الشافعي - رضي الله عنه - سببا لنزول آخر سورة "النحل": حمزة وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ؛ إلى آخرها؛ ولم توضع هنا؛ والأمر الصالح لأن يكون سببا لها ما روى في سننه؛ بسند رجاله رجال الصحيح؛ عن أبو داود أن أبي هريرة عمرو بن أقيش - رضي الله عنه - كان له ربا في الجاهلية؛ فكره أن يسلم حتى يأخذه؛ فجاء يوم أحد؛ فقال: أين بنو عمي؟ قالوا: بـ "أحد"؛ قال: أين فلان؟ قالوا: بـ "أحد"؛ قال: فأين فلان؟ قالوا: بـ "أحد"; فلبس لأمته؛ وركب فرسه؛ ثم توجه قبلهم؛ فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنا يا عمرو؛ قال: إني قد آمنت؛ فقاتل حتى جرح؛ فحمل إلى أهله جريحا؛ فجاءه - رضي الله عنه - فقال لأخته: سليه: حمية لقومك؛ أو غضبا لهم؛ أم غضبا لله - عز وجل؟ فقال: بل غضبا لله - عز وجل -؛ ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فمات؛ فدخل الجنة؛ وما صلى لله - عز وجل - صلاة؛ والقصة في جزء سعد بن معاذ عبيد الله بن محمد بن حفص العيشي - بالمهملة؛ ثم التحتانية؛ ثم المعجمة - تخريج أبي القاسم [ ص: 67 ] عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي؛ والجزء السابع عشر من المجالسة؛ للدينوري من طريق شيخ حماد بن سلمة ولفظ أبي داود؛ العيشي: إن عمرو بن وقش - وقال الدينوري: أقيش - كان له ربا في الجاهلية؛ وكان يمنعه ذلك الربا من الإسلام؛ حتى يأخذه؛ ثم يسلم؛ فجاء ذات يوم؛ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - زاد الدينوري: وأصحابه - بـ "أحد"؛ فقال: أين - وقال سعد بن معاذ؟ العيشي: فقال لقومه: أين - قالوا: هو بـ سعد بن معاذ؟ "أحد" - قال الدينوري: فقال: أين بنو أخيه؟ - قالوا: بـ "أحد"؛ فسأل عن قومه؛ فقالوا: بـ "أحد"؛ فأخذ سيفه؛ ورمحه؛ ولبس لأمته؛ ثم أتى "أحدا" - وقال الدينوري: ثم ذهب إلى "أحد" -؛ فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنا يا عمرو؛ قال: إني قد آمنت؛ فقاتل؛ فحمل إلى أهله جريحا؛ فدخل عليه فقال - يعني لامرأته -: سليه - وقال سعد بن معاذ؛ العيشي: فقال لأخته: ناديه -؛ فقولي - وقال الدينوري: فقالت: أجئت غضبا لله ورسوله؛ أم حمية؛ وغضبا لقومك؟ - فنادته؛ فقال: جئت غضبا لله؛ ورسوله؛ فمات؛ فدخل الجنة؛ ولم يصل لله قط; وقال الدينوري: قال ودخل الجنة؛ وما صلى لله صلاة. أبو هريرة:
ورواها ابن إسحاق؛ والواقدي؛ - رضي الله عنهم -؛ أنه كان يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل قط; وقال أبي هريرة أخبروني برجل يدخل الجنة [ ص: 68 ] لم يسجد لله قط؛ فيسكت الناس؛ فيقول الواقدي: - رضي الله عنه -: هو أخو أبو هريرة بني عبد الأشهل; وقال فإذا لم يعرفه الناس سألوا: من هو؟ فيقول: ابن إسحاق: أصيرم بني عبد الأشهل عمرو بن ثابت بن وقش - رضي الله (تعالى) عنه -; زاد قال ابن إسحاق: الحصين - يعني شيخه: فقلت كيف كان شأن لمحمود بن لبيد: الأصيرم؟ قال: كان يأبى الإسلام على قومه؛ فلما كان يوم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى "أحد"؛ بدا له في الإسلام؛ فأسلم؛ ثم أخذ سيفه؛ فغدا حتى دخل في عرض الناس؛ فقاتل حتى أثبتته الجراحة؛ فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة؛ إذا هم به؛ فقالوا: والله إن هذا للأصيرم؛ ما جاء به؟! لقد تركناه وإنه لمنكر بذا الحديث؛ فسألوه ما جاء به؛ فقالوا: ما جاء بك يا عمرو؟ أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام؛ آمنت بالله؛ وبرسوله؛ وأسلمت؛ ثم أخذت سيفي؛ فغدوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ثم قاتلت حتى أصابني ما أصابني؛ ثم لم يلبث أن [ ص: 69 ] مات في أيديهم؛ فذكروه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنه لمن أهل الجنة"؛ والمعنى على هذا: "يا أيها الذين يريدون الإيمان؛ لا تفعلوا مثل فعل عن الأصيرم في تأخير إيمانه لأجل الربا؛ بل سابقوا الموت لئلا يأتيكم بغتة؛ فتهلكوا"؛ أو: "يا أيها الذين أخبروا عن أنفسهم بالإيمان؛ ورسوخ الإذعان في أنفسهم؛ والإيقان بمر الزمان؛ افعلوا مثل فعله ساعة أسلم؛ في صدق الإيمان؛ وإسلام نفسه إلى ربه؛ بركوب الأهوال في غمرات القتال؛ من غير خوف؛ ولا توقف؛ ولا التفات إلى أمر دنيوي؛ وإن عظم; فقد بان أنه نبه بالإشارة إلى قصة "بدر"؛ ثم بهذه الآية على أن من أعرض عن الدنيا حصلت له بعز؛ وإن كان قليلا؛ ومن أقبل عليها فاتته بذل؛ وإن كان كثيرا جليلا؛ لأن من له ملك السماوات والأرض؛ يفعل ما يشاء؛ ولا تفيد الآية إباحة مطلق الفضل في الربا؛ ما لم ينته إلى الأضعاف المضاعفة؛ لأن إفهامها لذلك معارض لمنطوق آيات "البقرة"؛ الناهية عن مطلق الربا؛ والمفهوم لا يعمل به إذا عارض منطوق نص آخر؛ وهذا من مزيد الاعتناء بشأن الربا؛ إذ حرم كل نوع منه في آية تخصه؛ فحرم ربا الفضل في آيات "البقرة"؛ [ ص: 70 ] ويلزم من تحريمه تحريم ربا الأضعاف؛ ثم نص عليه في هذه الآية؛ فصار محرما مرتين؛ مفهوما ومنطوقا؛ مع ما أفاد ذكره من النكت التي تقدم التنبيه عليها.