ولما كان هذا محزنا للشفوق عليهم لإفهامه لشدة بعدهم عن الرجوع، قال منبها على أنه إذا أراد سبحانه قرب ذلك منهم غاية القرب لافتا القول إلى مظهر العظمة إيذانا بسهولة ذلك عليه: سنريهم أي عن قرب بوعد لا خلف فيه آياتنا أي على ما لها من العظمة [ ص: 225 ] في الآفاق أي النواحي، جمع أفق كعنق وأعناق، أبدلت الهمزة الثانية ألفا لسكونها بعد مثلها، أي وما ظهر من نواحي الفلك أو مهب الرياح، وذلك بما يفتح الله من البلاد بغلب أهلها بوقائع كل واحد منها علم من أعلام النبوة، وشاهد عظيم كاف في صحة الرسالة، تصديقا لوعده سبحانه وما أهلك من أهلها لنصر أنبيائه ورسله وبما فيها من عجائب الصنع وغرائب الآثار والوضع باختلاف الأحكام مع اتفاق جواهرها في التجانس - وغير ذلك من الآيات بالبصر اللاتي يشرحها بآيات السمع.
ولما كان الإيمان بالغيب هو المعتبر، وكل ما كان أقرب إليه كان أقرب إلى الكمال، وكانت آيات الآفاق أقرب إلى ذلك، بدأ بها، ثم قال: وفي أنفسهم أي من فتح مكة وما أصابهم من سني الجوع وقصة أبي بصير ونحو ذلك وتفصل لهم مع ذلك ما في الآدمي نفسه من بدائع الآيات وعجائب الخلق وغرائب الصنعة وما فيه من أمارات الحدوث واختلاف الأوصاف وغير ذلك من الشواهد المطابقة لما تضربه من الأمثال والدلائل المعقولة عند اعتبار الأقوال والأفعال، وبما في بلاد العرب من الآيات المرئية من نفي بعد إسراعهم إليه وإطباقهم عليه وإثبات التوحيد عند جميعهم بعد إبعادهم عنه وقتالهم الداعي إليه، وقد بين سبحانه في هذه من آيات الآفاق في آية [ ص: 226 ] أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وما شاكلها، وفي الأنفس في آيات فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود والذين من بعدهم ، ونحوها، وآيات لا يسأم الإنسان من دعاء الخير إلى آخرها الدالة على أن الإنسان مبني أمره على الجهل والعجز، فأكثر ما يتصوره ليس كما تصوره، فعليه أن يتأمل كتاب ربه ويتدبره - والله أعلم، قال الرازي في اللوامع: الاستدلال بالأفعال على فاعلها واضح وطريق لائح، والأفعال على قسمين أحدهما الآفاق وهو جملة العالم، والثاني النفوس، فإن أي من عرف روحه وكونها جوهرا متصرفا في البدن تصرف التدبير وعلم صفاتها من أنها باقية بغير البدن لا يحتاج في قوامها إلى البدن بل البدن محتاج إليها وأنها محل المعرفة فمن عرف أمثال هذه المعارف عرف ربه وصفاته من وحدانيته وعلمه وقدرته وإرادته وتصرفه في جملة العالم يعني وأن وجوده تعالى مباين وجود غيره. من عرف نفسه عرف ربه
ولما كان التقدير: ولا نزال نواتر ذلك شيئا في أثر شيء، عطف عليه قوله: حتى يتبين لهم غاية البيان بنفسه من غير إعمال فكر أنه أي القرآن الحق الكامل في الحقية الذي تطابقه الوقائع [ ص: 227 ] وتصادقه الأحوال العارضة والصنائع، فيجتمعوا عليه ويقبلوا بكل قلوبهم إليه، فلا يأباه في جزيرة العرب إنسان، ولا يختلف فيه منهم اثنان، ثم ينبثون في أرجاء الأرض بطولها والعرض فيظهر بهم على سائر الأديان، ويبيد على أيديهم أهل الكفران، في سائر البلدان، ويزول كل طغيان، فيكون ظهورهم في هذا الوقت وضعف المؤمنين بعد أن كان سبب ازديادهم من الكفر عظة لهم ولكل من يأتي بعدهم يوجب الثبات في محال الزلزال علما بأن الله أجرى عادته أن يكون للباطل ريح تخفق ثم تسكن، ودولة تظهر ثم تضمحل، وصولة تجول ثم تحول.
ولما كان هذا القول منبها على أن في الآفاق والأنفس من الآيات المرئية التي يقرؤها أولو الأبصار بالبصائر، ويتأملها بأعين السرائر، أمرا لا يحيط به الوصف، فكان حاديا على تجريد الأفكار للنظر والاعتبار، والوقوف على بعض ما في ذلك من لطائف الأسرار، كان كأنه قيل: ألم يروا بعقولهم ما في ذلك من الأدلة على أن فيكفيهم عن شهادة شيء خارج عن أنفسهم، عطف عليه قوله: القرآن من عند الله أولم يكف وأكد بإدخال الجار، وحقق الفاعل فقال مؤكدا بالباء ومحققا أنه الفاعل صارفا القول [ ص: 228 ] إلى وصف الإحسان إيذانا بالرفق بهم بردهم إليه دون ارتكابهم ما يوجب نكالهم وإهلاكهم واستئصالهم: بربك أي المحسن إليك بهذا البيان المعجز للإنس والجان شهادة بأنه من عنده أنه أي أو لم يكف شهادة ربك لأنه على كل شيء شهيد لا يغيب عنه شيء من الأشياء، لا هذا القرآن ولا غيره، وقد ففيه أعظم بشارة بتمام أمر الدين وظهوره على المعتدين، وذلك لأن كل أحد يجد في نفسه أنه إذا أراد ثبوت حق ينكره من هو عليه لصاحب الحق من الشهود ما يتحقق قولهم فيه ووصوله بهم إليه أنه يكون مطمئنا لا ينزعج بالجحد علما منه بأن حقه لا بد أن يظهر ويخزي معانده ويقهر، وفي هذا تأديب لكل من كان على حق ولا يجد من يساعده على ظهوره فإن الله شاهده فلا بد أن يظهر أمره فتوكل على الله إنك على الحق المبين. شهد لك فيه بإعجازه لجميع الخلق بكل ما تضمنته آياته، ونطقت به كلماته،