ولما أتم ما منه التحلي، أتبعه ما به التخلي، وذكر أوصافا أربعة هي قواعد النصفة ما انبنى عليها قط ربعها إلا كان الفاعلون لها كالجسد الواحد لا تأخذهم نازلة في الدنيا ولا في الآخرة فقال: والذين استجابوا أي أوجدوا الإجابة بمالهم من العلم الهادي إلى سبيل الرشاد لربهم أي الداعي لهم إلى إجابته إحسانه إليهم إيجادا من شدة حمل أنفسهم عليه يطلبونه من أنفسهم طلبا عظيما صادقا لم يبق معه لأحدهم نفس ولا بقية من وهم ولا رسم إلا على موافقة رضاه سبحانه لأنهم يعلمون أنه ما دعاهم إليه وهو مربيهم لصلاحهم وسعدهم وفلاحهم، لأنه محيط العلم شديد الرحمة لا يتهم بوجه من الوجوه.
ولما كان هذا عاما لكل خير دعا إليه سبحانه، خص وزاد في عظمتها بالتعبير بالإقامة فقال: أعظم عبادات البدن، وأقاموا أي بما لهم من القوة الصلاة فأفهم ذلك مع اللام أنهم أوجدوا صورتها محمولة بروحها على وجه يقتضي ثبوتها دائما. ولما كانت الاستجابة توجب للاتحاد القلوب بالإيمان الموجب للاتحاد في الأقوال والأفعال، والصلاة توجب الاتحاد بالأبدان، ذكر الاتحاد بالأقوال [ ص: 332 ] الناشئ عنه عند أولي الكمال الاتحاد في الأفعال، فقال معبرا بالاسمية حثا على أن جعلوا ذلك لهم خلقا ثابتا لا ينفك: وأمرهم أي كل ما ينوبهم مما يحوجهم إلى تدبير شورى أي يتشاورون فيه مشاورة عظيمة مبالغين مما لهم من قوة الباطن وصفائه في الإخلاص والنصح، من الشور وهو العرض والإظهار بينهم أي بحيث إنهم لا فرق في حال المشاورة بين كبير منهم وصغير بل كل منها يصغي إلى كلام الآخر وينظر في صحته وسقمه بتنزيله على أصول الشرع وفروعه، فلا يستبدل أحد منهم برأي لدوام اتهامه لرأيه لتحققه نقصه بما له من غزارة العلم وصفاء الفهم ولا يعجلون في شيء بل صار التأبي لهم خلقا، وسوق المشورة هذا السياق دال على عظيم جدواها وجلالة نفعها قال رحمه الله: الحسن - على أنه روى ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم في الصغير والأوسط لكن بسند ضعيف عن الطبراني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنس وروى في الأوسط عن "ما خاب من استخار ولا ندم من استشار ولا عال من اقتصد" رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابن عباس "من [ ص: 333 ] أراد أمرا فشاور فيه امرأ مسلما وفقه الله لأرشد أمره" .
ولما كانت بعد الاتحاد في الأقوال والاتفاق في الأفعال أعظم جامع على محاسن الخلال، وأظهر دال على ما ادعى من الاتحاد في الحال والمآل قال مسهلا عليهم أمرها بأنه لا مدخل لهم في الحقيقة في تحصيلها راضيا منهم باليسير منها: المواساة بالأموال ومما ولفت القول إلى مظهر العظمة تذكيرا بما يتعارفونه بينهم من أنه لا مطمع في التقرب من العظماء إلا بالهدايا فقال: رزقناهم أي بعظمتنا من غير حول منهم ولا قوة ينفقون أي يديمون الإنفاق كرما منهم وإن قل ما بأيديهم اعتمادا على فضل الله سبحانه وتعالى لا يقبضون أيديهم كالمنافقين، وذلك الإنفاق على حسب ما حددناه لهم فواسوا بالمشورة في فضل عقولهم وبالإنفاق في فضل أموالهم تقوى منهم ومراقبة لله لا شهوة نفس.