ولما قدم سبحانه في هذه السورة أن له التصرف التام في عالم [ ص: 352 ] الخلق بالأجسام المرئية وفي عالم الأمر بالأرواح الحسية والمعنوية القائمة بالأبدان والمدبرة للأديان، وغير ذلك من بديع الشأن، فقال في افتتاح السورة كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك وأتبعه أشكاله إلى أن قال أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك الآية فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا - الآية له مقاليد السماوات والأرض الله لطيف بعباده يرزق من يشاء من كان يريد حرث الآخرة - الآية، ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام - الآية إلى أن ذكر أحوال الآخرة في قوله وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون - الآيات، وختم بتصرفه المطلق في الإنسان من إنعام وانتقام، وما له من الطبع المعوج مع ما وهبه له من العقل المقيم في أحسن تقويم، فدل ذلك على أن له التصرف التام ملكا وملكوتا خلقا وأمرا، أتبعه الدليل على أن تصرفه ذلك على سبيل الملك والقهر إيجادا وإعداما إهانة وإكراما، فقال صارفا القول عن أسلوب العظمة التي [ ص: 353 ] من حقها دوام الخضوع وإهلاك الجبابرة إلى أعظم منها بذكر الاسم الأعظم الجامع لمظهر العظمة ومقام اللطف والإحسان والرحمة نتيجة لكل ما مضى: لله أي الملك الأعظم وحده لا شريك له ملك السماوات كلها على علوها وارتفاعها وتطابقها وكبرها وعظمها وتباعد أقطارها والأرض جميعها على تباينها وتكاثفها واختلاف أقطارها وسكانها واتساعها.
ولما أخبر بانفراده بالملك، دل عليه بقوله تعالى: يخلق أي على سبيل التجدد والاستمرار ما يشاء أي وإن كان على غير اختيار العباد، ثم دل على ذلك بما يشاهد من حال الناس فإنه لما استوى البشر في الإنسانية والنكاح الذي هو سبب الولادة اختلفت أصناف أولادهم. كان ذلك أدل دليل على أنه لا اختيار لأحد معه وأن الأسباب لا تؤثر أصلا إلا به. ولما كانت ولادة الإناث أدل على عدم اختيار الولد وكانوا يعدونه من البلاء الذي ختم به ما قبلها قدمهن في الذكر فقال: يهب خلقا ومولدا لمن يشاء أولادا [ ص: 354 ] إناثا أي فقط ليس معهن ذكر كما في لوط عليه الصلاة والسلام، وعبر سبحانه فيهن بلفظ الهبة لأن الأوهام العادية قد تكتنف العقل فتحجبه عن تأمل محاسن التدبيرات الإلهية، وترمي به في مهاوي الأسباب الدنيوية، فيقع المسلم مع إسلامه في مضاهاة الكفار في كراهة البنات وفي وادي الوأد بتضييعهن أو التقصير في حقوقهن وتنبيها على أن وإيقاظا من سنة الغفلة على أن التقديم وإن كان لما قدمته لا يقدم تأنيسا وتوصية لهن واهتماما بأمرهن، نقل الأنثى نعمة، وأن نعمتها لا تنقص عن نعمة الذكر وربما زادت، ابن ميلق عن ابن عطية عن أن الثعلبي رضي الله عنه قال: من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر لأن الله تعالى بدأ بالإناث، ولذلك رغب النبي صلى الله عليه وسلم في الإحسان إليهن في أحاديث كثيرة ورتب على ذلك أجرا كبيرا ولأجل تضمين الهبة مع الخلق عداها باللام مع أن فعلها متعد بنفسه إلى مفعولين لئلا يتوهم أن الولد كان لغير الوالد ووهبه الله له. [ ص: 355 ] ولما كان الذكر حاضرا في الذهن لشرفه وميل النفس إليه لا سيما وقد ذكر به ذكر الإناث، عرف لذلك وجبرا لما فوته من التقديم في الذكر تنبيها على أنه ما أخر إلا لما ذكر من المعنى فقال: واثلة بن الأسقع ويهب لمن يشاء الذكور أي فقط ليس بينهن أنثى كما صنع لإبراهيم عليه السلام وهو عم لوط عليه السلام.