ولما كان هذا أمرا سائقا إلى حالهم سابقا لمن كان واقفا عنهم إلى وصالهم، أقبل على ما لعله يوقفه الاشتغال بلهو أو مال محركا لما جهل منه، ومنبها على ما غفل عنه، فقال عائدا إلى الغيبة ترغيبا في التقوى: يطاف عليهم أي المتقين الذين جعلناهم بهذا النداء ملوكا بصحاف جمع صحفة وهي القصعة من ذهب فيها من ألوان الأطعمة والفواكه والحلوى ما لا يدخل تحت الوهم.
ولما كانت آنية الشرب في الدنيا أقل من آنية الأكل، جرى على ذلك المعهود، فعبر بجمع القلة في قوله: وأكواب جمع كوب وهو كوز مستدير مدور الرأس لا عروة له، قد تفوق عن شيء منه اليد أو الشفقة أو يلزم منها بشاعة في شيء من دائر الكوز، وإيذانا بأنه لا حاجة أصلا إلى تعليق شيء لتزيد أوصافه عن أذى [ ص: 479 ] أو نحو ذلك.
ولما رغب فيها بهذه المغيبات، أجمل بما لا يتمالك معه عاقل عن المبادرة إلى الدخول فيما يخصها فقال: وفيها أي الجنة. ولما كانت اللذة محصورة في المشتهى قال تعالى: ما تشتهيه الأنفس من الأشياء المعقولة والمسموعة والملموسة وغيرها جزاء لهم على ما منعوا أنفسهم من الشهوات في الدنيا، ولما كان ما يخص المبصرات من ذلك أعظم، خصها فقال: وتلذ الأعين من الأشياء المبصرة التي أعلاها النظر إلى وجهه الكريم تعالى، جزاء ما تحملوه من مشاق الاشتياق.
ولما كان ذلك لا يكمل طيبه إلا بالدوام، قال عائدا إلى الخطاب لأنه أشرف وألذ مبشر لجميع المقبلين على الكتاب، والملتفت إليهم بالترغيب في هذا الثواب، بشارة لهذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام بما قدمه في أول السورة وأثنائها من بلوغ قومه نهاية العقل والعلم والموصلين إلى أحسن العمل الموجب للسعادة: وأنتم فيها خالدون لبقائها وبقاء كل ما فيها، فلا كلفة عليكم أصلا من خوف من زوال ولا حزن من فوات.