ولما برجوعهم من غير أن يصيبهم قرح؛ ومدح أحوال الشهداء؛ ترغيبا في الشهادة؛ وأحوال من كان على مثل حالهم؛ ترغيبا في النسج على منوالهم؛ وختم بتعليق السعادة بوصف الإيمان؛ أخذ يذكر ما أثمر لهم إيمانهم من المبادرة إلى الإجابة إلى ما يهديهم إليه - صلى الله عليه وسلم -؛ إشارة إلى أنه لم يحمل على التخلف عن أمره من غير عذر إلا صريح النفاق؛ فقال: ذم المنافقين الذين استجابوا ؛ أي: أوجدوا الإجابة في الجهاد؛ إيجادا مؤكدا محققا؛ ثابتا؛ بما عندهم من خالص الإيمان؛ لله والرسول ؛ أي: لا لغرض مغنم؛ ولا غيره؛ ثم عظم صدقهم بقوله - مثبتا الجار؛ لإرادة ما يأتي من إحدى الغزوتين؛ لا استغراق ما بعد الزمان -: من بعد ما أصابهم القرح
ولما كان تعليق الأحكام بالأوصاف حاملا على التحلي بها عند المدح؛ قال - سبحانه وتعالى -: للذين أحسنوا ؛ وعبر بما يصلح للبيان [ ص: 124 ] والبعض؛ ليدوم رغبهم؛ ورهبهم؛ فقال: منهم واتقوا أجر عظيم ؛ وهذه الآيات من تتمة هذه القصة؛ سواء قلنا: إنها إشارة إلى غزوة "حمراء الأسد"؛ أو غزوة "بدر"؛ الموعد؛ فإن الوعد كان يوم "أحد"؛ والله الهادي؛ ومما يجب التنبيه له أن البيضاوي قال - تبعا -: للزمخشري "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى "بدر"؛ الموعد؛ في سبعين راكبا"؛ وفي تفسير أن ذلك كان في البغوي "حمراء الأسد"؛ فإن حمل على أن الركبان من الجيش كان ذلك عددهم؛ وأن الباقين كانوا مشاة؛ فلعله؛ وإلا فليس كذلك؛ وأما في "حمراء الأسد"؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغه أن المشركين هموا بعد انفصالهم من "أحد"؛ بالرجوع؛ فأراد أن يرهبهم؛ وأن يريهم من نفسه؛ وأصحابه قوة؛ فنادى مناديه يوم الأحد - الغد من يوم "أحد" - بطلب العدو؛ وألا يخرج معه إلا من كان حاضرا معه بالأمس؛ فأجابوا بالسمع؛ والطاعة؛ فخرج في أثرهم؛ واستعمل على المدينة ولا يشك في أنهم أجابوا كلهم؛ ولم يتخلف منهم أحد؛ وقد كانوا في ابن أم مكتوم؛ "أحد"؛ نحو سبعمائة؛ ولم يأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخروج معه لأحد لم يشهد القتال يوم "أحد"؛ واستأذنه رجال لم يشهدوها؛ فمنعهم؛ إلا ما كان من - رضي الله عنهما - [ ص: 125 ] فإنه أذن له؛ لعلة ذكرها في التخلف عن جابر بن عبد الله "أحد"؛ محمودة.
قال الواقدي: "ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلوائه؛ وهو معقود لم يحل من الأمس؛ فدفعه إلى - رضي الله عنه - ويقال: إلى علي - رضي الله عنه -؛ وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأسه مشجوج؛ وهو مجروح؛ في وجهه أثر الحلقتين؛ ومشجوج في جبهته في أصول الشعر؛ ورباعيته قد سقطت؛ وشفته قد كلمت من باطنها؛ وهو متوهن منكبه الأيمن بضربة ابن قميئة؛ وركبتاه مجحوشتان - بأبي هو؛ وأمي؛ ووجهي؛ وعيني - فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد؛ فركع ركعتين؛ والناس قد حشدوا؛ ونزل أهل العوالي حيث جاءهم الصريخ؛ ثم ركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين؛ فدعا بفرسه على باب المسجد؛ وتلقاه أبي بكر - رضي الله عنه - وقد سمع المنادي؛ فخرج ينظر متى يسير؛ فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه الدرع؛ والمغفر؛ وما يرى منه إلا عيناه؛ فقال: "يا طلحة سلاحك"؛ قال: قلت: قريب؛ قال طلحة.. فأخرج؛ أعدو؛ فألبس درعي؛ ولأنا أهم بجراح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 126 ] مني بجراحي؛ ثم أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على [طلحة]: فقال: "أين ترى القوم الآن؟"؛ قال: هم بالسيالة؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذلك الذي ظننت؛ أما إنهم يا طلحة؛ لن ينالوا منا مثل أمس؛ حتى يفتح الله طلحة مكة علينا"؛ ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه؛ حتى عسكر بـ "حمراء الأسد"؛ قال - رضي الله عنه -: وكان عامة زادنا التمر؛ وحمل جابر - رضي الله عنه - ثلاثين بعيرا؛ حتى وافت الحمراء؛ وساق جزورا؛ فنحروا في يوم اثنين؛ وفي يوم ثلاثاء؛ وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرهم في النهار بجمع الحطب؛ فإذا أمسوا أمر أن توقد النيران؛ فيوقد كل رجل نارا؛ فلقد كنا تلك الليالي نوقد خمسمائة نار؛ حتى نرى من المكان البعيد؛ وذهب ذكر معسكرنا ونيراننا في كل وجه؛ حتى كان ما كبت الله به عدونا"؛ سعد بن عبادة فهذا ظاهر في أنهم كانوا خمسمائة رجل - والله أعلم -؛ ويؤيد ذلك ما نقل من أخبار المثقلين بالجراح؛ قال الواقدي: "جاء - رضي الله عنه - والجراح في الناس فاشية؛ عامة سعد بن معاذ بني عبد الأشهل جريح؛ بل كلهم - رضي الله عنهم -؛ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 127 ] يأمركم أن تطلبوا عدوكم؛ قال: يقول - رضي الله عنه - وبه سبع جراحات؛ وهو يريد أن يداويها: سمعا وطاعة لله؛ ولرسوله؛ فأخذ سلاحه؛ ولم يعرج على دواء جراحه؛ ولحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم -; وجاء أسيد بن حضير - رضي الله عنه - قومه؛ سعد بن عبادة بني ساعدة فأمرهم بالمسير؛ فلبسوا ولحقوا؛ وجاء أبو قتادة - رضي الله عنه - أهل خربى؛ وهم يداوون الجراح؛ فقال: هذا منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمركم بطلب العدو؛ فوثبوا إلى سلاحهم؛ وما عرجوا على جراحاتهم - رضي الله عنهم -؛ فخرج من بني سلمة - رضي الله عنهم - أربعون جريحا؛ وبالطفيل بن النعمان - رضي الله عنه - ثلاثة عشر جرحا؛ وبقطبة بن عامر بن حديدة - رضي الله عنه - تسع جراحات؛ حتى وافوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ببئر أبي عتبة إلى رأس الثنية؛ عليهم السلاح؛ قد صفوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فلما نظر إليهم والجراح فيهم فاشية؛ قال: "اللهم ارحم بني سلمة"؛ وحدث ابن إسحاق والواقدي أن عبد الله بن سهل؛ ورافع بن سهل - رضي الله عنهما -كان بهما جراح كثيرة؛ [ ص: 128 ] فلما بلغهما النداء قال أحدهما لصاحبه: والله إن تركنا غزوة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغبن؛ والله ما عندنا دابة نركبها؛ وما ندري كيف نصنع؛ قال عبد الله: انطلق بنا؛ قال رافع: لا والله؛ ما بي مشي؛ قال أخوه: انطلق بنا نتجار؛ فخرجا يزحفان؛ فضعف رافع؛ فكان عبد الله يحمله على ظهره عقبة؛ ويمشي الآخر عقبة؛ حتى أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند العشاء؛ وهم يوقدون النيران؛ فأتي بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وعلى حرسه تلك الليلة فقال: "ما حبسكما؟"؛ فأخبراه بعلتهما؛ فدعا لهما بخير؛ وقال: "إن طالت بكم مدة كانت لكم مراكب من خيل؛ وبغال؛ وإبل؛ وليس ذلك بخير لكم"؛ عباد بن بشر؛ وأما غزوة "بدر"؛ الموعد؛ فروى - ومن طريقه الواقدي في "الإكليل" - كما حكاه الحاكم ابن سيد الناس؛ قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد خرج في هذه الغزوة في ألف وخمسمائة من [ ص: 129 ] أصحابه - رضي الله عنهم -؛ وكانت الخيل عشرة؛ قال وأقبل رجل من ضمرة؛ يقال له: الواقدي: مخشي بن عمرو؛ فقال - والناس مجتمعون في سوقهم؛ وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر أهل الموسم -: يا محمد؛ لقد أخبرنا أنه لم يبق منكم أحد؛ فما أعلمكم إلا أهل الموسم؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليرفع ذلك إلى عدوه: "ما أخرجنا إلا موعد وقتال عدونا؛ وإن شئت مع ذلك نبذنا إليك وإلى قومك العهد؛ ثم جالدناكم قبل أن نبرح من منزلنا هذا"؛ فقال أبي سفيان؛ الضمري: بل نكف أيدينا عنكم؛ ونتمسك بحلفك".