ولما ختم ذلك بذكر توبة الزناة؛ وكان الحامل على الزنا - على ما يقتضيه الطبع البشري - شدة الشبق؛ وقلة النظر في العواقب؛ وكان [ ص: 219 ] ذلك إنما هو في الشباب; وصل بذلك قوله (تعالى) - معرفا مرغبا في تعجيلها؛ مرهبا من تأخيرها -: بوقت التوبة؛ وشرطها؛ إنما التوبة ؛ وهي رجوع العبد عن المعصية؛ اعتذارا إلى الله (تعالى) ؛ والمراد هنا قبولها؛ سماه باسمها لأنها بدون القبول لا نفع لها؛ فكأنه لا حقيقة لها.
ولما شبه قبوله لها بالواجب من حيث إنه بها؛ لأنه لا يبدل القول لديه; عبر بحرف الاستعلاء المؤذن بالوجوب؛ حثا عليها؛ وترغيبا فيها؛ فقال: على الله ؛ أي: الجامع بصفات الكمال؛ للذين يعملون السوء ؛ أي سوء كان؛ من فسق أو كفر؛ وقال: بجهالة ؛ إشارة إلى شدة قبح العصيان؛ لا سيما الزنا؛ من المشايخ؛ لإشعار السياق ترهيبا بأن الأمر فيهم ليس كذلك - كما صرح به النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه بإسناد جيد؛ عن البزار - رضي الله عنه - سلمان وهو في "ثلاثة لا يدخلون الجنة: الشيخ الزاني؛ والإمام الكذاب؛ والعائل المزهو"؛ وغيره؛ عن مسلم؛ - رضي الله عنه -: أبي هريرة وهو عن كثير من الصحابة؛ من طرق كثيرة؛ وذلك لأن حضور الموت بالقوة القريبة؛ من الفعل؛ [ ص: 220 ] وإضعاف القوى الموهنة لداعية الشهوة؛ قريب من حضوره بالفعل؛ وذلك ينبغي أن يكون مذهبا لداعية الجهل؛ ماحقا لعرامة الشباب؛ سواء قلنا: إن المراد بالجهالة ضد الحلم؛ أو ضد العلم; قال الإمام "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة؛ ولا ينظر إليهم؛ ولا يزكيهم؛ ولهم عذاب أليم: شيخ زان؛ وملك كذاب؛ وعائل مستكبر"؛ في كتابه "الواعي": قال عبد الحق؛ أبو عبد الله - يعني القزاز -: والجاهلية الجهلاء: اسم وقع على أهل الشرك؛ يكون مأخوذا من الجهل؛ الذي هو ضد العلم؛ والذي هو ضد الحلم؛ قال: وأصل الجهل من قولهم: "استجهلت الريح الغصن"؛ إذا حركته؛ فكأن الجهل إنما هو حركة تخرج عن الحق؛ والعلم؛ انتهى؛ فالمعنى حينئذ: يعملون السوء ملتبسين بسفه؛ أو بحركة؛ وخفة أخرجتهم عن الحق والعلم؛ فكانوا كأنهم لا يعلمون بعملهم عمل أهل الجاهلية؛ الذين لا يعلمون؛ وزاد في التنفير من مواقعة السوء؛ والتحذير؛ بقوله: ثم يتوبون ؛ أي: يجددون التوبة.
ولما كان المراد الترغيب فيها؛ ولو قصر زمنها بمعاودة الذنب؛ أثبت الجار؛ فقال: من ؛ أي: من بعض زمان؛ قريب ؛ أي: من زمن المعصية؛ وهم في فسحة من الأجل؛ وذلك كناية عن [ ص: 221 ] عدم الإصرار إلى الموت؛ ولعله عبر بـ "ثم"؛ إشارة إلى بعد التوبة؛ ولا سيما مع القرب ممن واقع المعصية؛ لأن الغالب أن الإنسان إذا ارتبك في حبائلها لا يخلص إلا بعد عسر؛ ولذلك أشار إلى تعظيمهم بأداة البعد في قوله - مسببا عن توبتهم؛ واعدا أنه فاعل ما أوجبه على نفسه لا محالة؛ من غير خلف؛ وإن كان لا يجب عليه شيء؛ ولا يقبح منه شيء -: فأولئك ؛ أي: العظيمو الرتبة؛ الصادقو الإيمان؛ يتوب الله ؛ أي: الذي له جميع صفات الكمال؛ عليهم ؛ أي: يردهم إلى ما كانوا فيه عنده من مكانة القرب قبل مواقعة الذنب؛ وكان الله ؛ أي: المحيط علما؛ وقدرة؛ عليما ؛ أي: بالصادقين في التوبة؛ والكاذبين؛ وبنياتهم؛ فهو يعاملهم بحسب ما يقتضيه حالهم؛ حكيما ؛ فهو يضع الأشياء في أحكم محل لها؛ فمهما فعله لم يمكن نقضه.