ولما أتم - سبحانه - الحلال والحرام من هذه الحدود؛ والأحكام؛ [ ص: 241 ] وختمها بصفة الرحمة؛ بين ما أراد بها من موجبات الرحمة؛ تذكيرا بالنعمة؛ لتشكر؛ وتحذيرا من أن تنسى فتكفر؛ فقال (تعالى): يريد الله ؛ أي: الملك الأعظم إنزال هذه الأحكام على هذا النظام؛ ليبين لكم ؛ أي: ليوقع لكم البيان الشافي فيما لكم؛ وعليكم؛ من شرائع الدين؛ ويهديكم ؛ أي: يعرفكم؛ سنن ؛ أي: طرق الذين ؛ ولما كان المراد بعض الماضين؛ قال: من قبلكم ؛ أي: من أهل الكتاب: الأنبياء؛ وأتباعهم؛ ويتوب عليكم ؛ أي: يرجع بكم عن كل ما لا يرضيه؛ لا سيما ما يجر إلى المقاطعة - مثل منع النساء والأطفال الإرث؛ ومثل نكاح ما يحرم نكاحه؛ وغير ذلك؛ فأعلمهم بهذا أنهم لم يخصهم بهذه التكاليف؛ بل يسلك بهم فيها صراط الذين أنعم عليهم؛ ليكون ذلك أدعى لهم إلى القبول؛ وأعون على الامتثال؛ وليتحققوا أن إلقاء أهل الكتاب الشبه إليهم؛ وتذكيرهم بالأضغان؛ لإرادة إلقاء العداوة؛ محض حسد لمشاركتهم لهم في مننهم؛ إذ هدوا لسننهم؛ وما أحسن ختم ذلك بقوله: والله ؛ أي: المحيط بأوصاف الكمال؛ عليم حكيم فلا يشرع لكم شيئا إلا وهو في غاية الإحكام؛ فاعملوا به يوصلكم إلى دار السلام.
بيان ذلك أن ما في هذه السورة [ ص: 242 ] وبيان الفرائض؛ وأمر الزناة؛ وما يحل ويحرم من النساء؛ والتحري في الأموال؛ والإحسان إلى الناس؛ لا سيما الأيتام والوالدين؛ والإذعان للأحكام؛ وتحريم القتل؛ والأمر بالعدل في الشهادة؛ وغيرها؛ وكل ذلك مبين أصوله في التوراة؛ كما هو مبثوث في هذا الديوان عن نصوصها في المواضع اللائقة به؛ لكن القرآن أحسن بيانا؛ وأبلغ تبيانا؛ وأبدع شأنا؛ وألطف عبارة؛ وأدق إشارة؛ وأعجب ذلك أن سبب إنزال فرائض الميراث في شريعتنا النساء؛ ففي الصحيحين وغيرهما؛ عن الأمر بالتقوى؛ والحث عليها؛ - رضي الله عنه - قال: جابر في التفسير: عادني النبي - صلى الله عليه وسلم - البخاري؛ في وأبو بكر بني سلمة؛ ماشيين؛ فوجدني النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أعقل؛ فدعا بماء فتوضأ؛ فصب علي وضوءه؛ فأفقت؛ فقلت: يا رسول الله؛ كيف أصنع في مالي؟ وفي رواية إنما يرثني كلالة؛ فلم يجبني بشيء؛ وفي رواية لمسلم: وكانت لي تسع أخوات؛ حتى نزلت آية الميراث؛ وفي رواية الترمذي فنزلت؛ وفي رواية للبخاري: حتى نزلت للترمذي: يوصيكم الله في أولادكم وفي رواية حتى نزلت آية الميراث: للترمذي: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ؛ الآية؛ وقال: حديث صحيح؛ مرضت فعادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فأتاني وقد أغمي علي؛ وفي رواية ولأبي داود والترمذي؛ وابن ماجة؛ عن والدارقطني؛ - رضي الله عنهما - قال: جابر بن عبد الله امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد - رضي الله عنهم - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله؛ هاتان ابنتا قتل أبوهما معك يوم سعد بن الربيع؛ "أحد"؛ شهيدا؛ وإن عمهما أخذ مالهما؛ فلم يدع لهما مالا؛ ولا تنكحان إلا ولهما مال؛ قال: "يقضي الله - عز وجل - في ذلك"؛ فنزلت آية الميراث؛ وفي رواية ونزلت الآية في سورة "النساء"؛ أبي داود: يوصيكم الله في أولادكم ؛ وفي رواية فنزلت سورة "النساء"؛ وفيها الدارقطني: يوصيكم الله في أولادكم ؛ إلى آخر الآية - فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمهما؛ فقال: "أعط ابنتي سعد الثلثين؛ وأعط أمهما الثمن؛ وما بقي فهو لك"؛ وفي رواية "جاءت [ ص: 243 ] للدارقطني: امرأة سعد بن الربيع قالت: يا رسول الله؛ إن سعدا هلك؛ وترك ابنتين؛ وأخاه؛ فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد؛ وإنما تنكح النساء على أموالهن؛ فلم يجبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مجلسه ذلك؛ ثم جاءته فقالت: يا رسول الله؛ ابنتا سعد؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ادعي لي أخاه"؛ فجاء؛ فقال: "ادفع إلى ابنتيه الثلثين؛ وإلى امرأته الثمن؛ [ ص: 244 ] ولك ما بقي"؛ وقال شيخنا؛ حافظ عصره؛ إن أبو الفضل؛ أحمد بن علي بن حجر؛ في "الإصابة في أسماء الصحابة": روى في تفسيره؛ من طريق أبو الشيخ عبد الله بن الأجلح الكندي؛ عن عن الكلبي؛ أبي صالح؛ عن - رضي الله عنهما -قال: ابن عباس كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات؛ ولا الأولاد الصغار؛ حتى يدركوا؛ فمات رجل من الأنصار؛ يقال له أوس بن ثابت؛ وترك بنتين؛ وابنا صغيرا؛ فجاء ابنا عمه؛ خالد؛ وعرفطة؛ فأخذا ميراثه؛ فقالت امرأته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك؛ فأنزل الله (تعالى): للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ؛ فأرسل إلى خالد؛ وعرفطة؛ فقال: "لا تحركا من الميراث شيئا"؛ ورواه من وجه آخر؛ فقال: أبو الشيخ قتادة وعرفطة؛ ورواه في تفسيره؛ فقال: الثعلبي سويد وعرفطة؛ ووقع عنده أنهما أخوا أوس: ورواه في تفسيره؛ فقال: إن مقاتل أوس بن مالك توفي يوم "أحد"؛ وترك امرأته؛ أم كجة؛ وبنتين؛ [ ص: 245 ] فذكر القصة؛ وذكر شيخنا في تخريج أحاديث الكشاف أن الثعلبي؛ ساقا بلا سند والبغوي أن أوس بن الصامت الأنصاري ترك امرأته؛ أم كجة؛ وثلاث بنات؛ فزوى ابنا عمه سويد وعرفطة - أو قتادة وعرفجة - ميراثه عنهن؛ وكان أهل الجاهلية لا يورثون النساء؛ ولا الأطفال؛ ويقولون: لا يرث إلا من طاعن بالرماح؛ وذاد عن الحوزة؛ وحاز الغنيمة؛ فجاءت أم كجة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد الفضيخ؛ فشكت إليه؛ فقال: ارجعي حتى أنظر ما يحدث الله؛ فنزلت: للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ؛ فبعث إليهما: "لا تفرقا من مال أوس شيئا؛ فإن الله قد جعل لهن نصيبا"؛ ولم يبين حتى نزلت: يوصيكم الله في أولادكم الآية؛ فأعطى أم كجة الثمن؛ والبنات الثلثين؛ والباقي لابني العم؛ ورواه من طريق الطبري عن ابن جريج؛ على غير هذا السياق؛ ولفظه: عكرمة؛ نزلت في أم كجة وابنة أم كجة؛ وثعلبة؛ وأوس بن سويد؛ وهم من الأنصار؛ كان أحدهما زوجها؛ والآخر عم ولدها؛ فقالت: يا رسول الله؛ توفي زوجي؛ وتركني وابنته؛ فلم نورث؛ فقال عم ولدها: إن ولدها لا يركب فرسا؛ ولا يحمل كلا؛ [ ص: 246 ] ولا ينكأ عدوا؛ فنزلت: للرجال نصيب وروي من طريق قال - في قوله: السدي؛ يوصيكم الله في أولادكم -: كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري؛ ولا الضعفاء من الغلمان؛ ولا يورثون إلا من أطاق القتال؛ فمات عبد الرحمن؛ أخو الشاعر؛ وترك امرأة يقال لها حسان؛ أم كجة؛ وترك خمس أخوات؛ فجاءت الورثة؛ فأخذوا ماله؛ فشكت أم كجة ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فأنزل الله: فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ؛ ثم قال - في أم كجة -: ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد
فجميع هذه الروايات - كما ترى - ناطقة بأن سبب نزول آيات الميراث النساء؛ ويمكن أن يكون المجموع سببا؛ والله أعلم; وذلك كما أن سبب إنزال الفرائض في التوراة كان النساء أيضا؛ وذلك أنه - جل أمره؛ وعز اسمه؛ وتعالى جده - لما أمات من نكص عن أمره من بني إسرائيل؛ ومن آلافهم في التيه؛ وأخرج أبناءهم منه; أمر موسى - عليه الصلاة والسلام - بقسمة أرض الكنعانيين بين بنيهم بعد معرفة عددهم؛ على منهاج ذكره؛ ولم يذكر البنات؛ وكان فيهم بنات لا أب [ ص: 247 ] لهن؛ فسألن ميراث أبيهن؛ فأنزل الله حكمهن; قال - في السفر الرابع من التوراة؛ ما نصه -: (ولما كان بعد الموت الفاشي قال الرب لموسى ولليعازر بن هارون الحبر: احفظا عدد جماعة بني إسرائيل من ابن عشرين سنة إلى فوق؛ كل من خرج للمحاربة من بين بني إسرائيل؛ فكلما الجماعة في عربات مؤاب التي عند أردن أريحا؛ وأخبراهم بقول الرب؛ ثم أحصياهم؛ فكان عددهم ستمائة ألف وسبعمائة وثلاثين رجلا؛ غير اللاويين سبط موسى؛ فإنهم كانوا لحفظ قبة الزمان؛ وخدمتها؛ وكانوا ثلاث قبائل؛ أحدهم فغث؛ فولد له عمران؛ وكان اسم امرأة عمران حنة ابنة لوى؛ ولدت له بأرض مصر هارون؛ [ ص: 248 ] وموسى؛ ومريم؛ وكان عددهم في هذا الوقت ثلاثة وعشرين ألفا؛ كل ذكر منهم ابن شهر؛ فما فوق؛ ولم يكن في هؤلاء ممن أحصاه موسى وهارون؛ حيث عدا بني إسرائيل في برية سيناء؛ لأن الرب قال لهم: يقتلون في هذه المفازة؛ ولا يبقى منهم رجل ما خلا كلاب بن يوفنا؛ ويوشع بن نون؛ ودنا بنات صلفحد من قبيلة منشى بن يوسف؛ وقلن: أبونا توفي في البرية ولم يخلف ابنا؛ أعطنا ميراثنا؛ فرفع موسى أمرهن إلى الرب؛ فقال الرب لموسى: الحق قلن؛ أعطهن ميراثا مع أعمامهن؛ ليتبين ميراث أبيهن؛ وقل لبني إسرائيل: أي رجل مات ولم يخلف ابنا يعطى ميراثه ابنته وإن لم يكن له ابنة يعطى ميراثه إخوته؛ ومن لم يكن له إخوة يعطى ميراثه أعمامه ومن لم يكن له أعمام يعطى ميراثه لمن كان قرابته من أهل عشيرته؛ وتكون هذه سنة لبني إسرائيل في أحكامهم؛ كما أمر الرب موسى); وقال - في السفر الثالث منها؛ ما نصه -: سنة الخطايا التي إذا ارتكبها إنسان [ ص: 249 ] عوقب بالموت: وكلم الرب موسى؛ وقال له: كلم بني إسرائيل؛ وقل لهم: أنا الله ربكم؛ لا تعملوا مثل أعمال أهل مصر التي سكنتموها؛ ولا تعملوا مثل أعمال أهل كنعان التي أدخلكم إليها؛ ولا تسيروا سنتهم؛ ولكن اعملوا بأحكامي؛ واحفظوا وصاياي؛ وسيروا بها؛ أنا الله ربكم؛ احفظوا شرائعي وأحكامي؛ لأن الذي يعمل بها يعيش؛ أنا الرب وليس إله غيري؛ ولا يجسرن الرجل منكم أن يكشف عورة قرابته؛ أنا الرب وليس إله غيري؛ ولا تكشفن عورة أبيك؛ ولا عورة أمك؛ لأنها أمك؛ ولا تفضح امرأة ابنك؛ ولا تكشف عورتها؛ لأن عورتها عورة ابنك؛ ولا تفضح أختك من أبيك ومن أمك التي ولدت من أبيك؛ أو أختك من أمك لا من أبيك؛ لا تكشف عورتها؛ لأن فضيحتها فضيحتك؛ ولا تكشف عورة بنت امرأة أبيك التي ولدت من أبيك؛ لأنها أختك؛ ولا تكشف عورة عمتك لأنها أخت أبيك؛ ولا تكشف عورة خالتك لأنها أخت أمك؛ ولا تكشف عورة امرأة عمك؛ ولا تدن من امرأته؛ لأنها امرأة عمك؛ ولا تكشف عورة كنتك؛ لأنها امرأة ابنك؛ ولا تكشف [ ص: 250 ] عورة امرأة أخيك؛ لأن فضيحتها فضيحة أخيك؛ ولا تكشف عورة امرأة وبنتها - أي: لا تتزوج بهما -؛ ولا تكشف عورة بنت الابن؛ ولا بنت البنت؛ لأن فضيحتهما فضيحتك؛ ولا تكشف عورتهما؛ هن قرابتك؛ وارتكابهن إثم؛ ولا تتزوج أخت امرأتك في حياتها؛ فتحزنها؛ ولا تكشف عورتهما جميعا في حياة امرأتك؛ والمرأة إذا حاضت وطمثت لا تدن لتكشف عورتها؛ ولا تسفح بامرأة صاحبك؛ ولا تنجس؛ ولا تنجس اسم إلهك؛ أنا الله ربكم؛ لا تضاجعن الذكر؛ ولا ترتكب من الذكر ما ترتكب من المرأة؛ لأنه فعل نجس؛ ولا بهيمة؛ ولا تلق زرعك فيها فتنجس بها؛ والمرأة أيضا لا تقوم بين يدي بهيمة تطؤها؛ لأنه فعل نجس؛ لا تنجسوا منها بشيء؛ فبهذه كلها تنجست الشعوب التي أهلكتها من بين أيديكم؛ وتنجست أرضهم بفعلهم؛ وعاقبتها بإثمها؛ وتعطلت الأرض من سكانها لحال خطاياهم; احفظوا عهودي؛ وأحكامي؛ ولا ترتكبوا شيئا من هذه الخطايا؛ لأن أهل البلاد التي ترثونها فعلوا هذه الأفاعيل كلها؛ [ ص: 251 ] وتنجست الأرض بهم؛ ولا تنجسوا الأرض؛ لئلا تعطل منكم؛ كما تعطلت من الشعوب التي كانوا بها قبلكم؛ لأن كل من يفعل هذه الخطايا يهلك; احفظوا شرائعي؛ ولا ترتكبوا شيئا من سير الخطايا التي فعلها من كان قبلكم؛ ولا تنجسوا بها؛ أنا الله ربكم).
ثم كلم الرب موسى وقال له: (كلم جميع بني إسرائيل؛ وقل لهم: تقدسوا؛ لأني قدوس؛ أنا الله ربكم؛ يهاب كل امرئ منكم والديه؛ ويكرمهما؛ واحفظوا وصاياي؛ لأني أنا الله ربكم؛ لا تقبلوا إلى الشيطان؛ ولا تتخذوا آلهة مسبوكة؛ أنا الله ربكم)؛ وقال في السفر الثاني: (ولا تصدقن الخبر الكاذب؛ لا توال الخبيث لتكون له شاهد زور؛ ولا تتبعن هوى الكبير فتنسى؛ ولا تشايعن الكبراء الذين يحيفون في القضاء فتحيف معهم؛ ولا تعن المسكين على الظلم؛ لا تحيفن في قضاء المسكين وتباعد عن القول الكاذب)؛ وقال في السفر الخامس: (ودعا موسى بجميع بني إسرائيل؛ وقال لهم: اسمعوا يا بني إسرائيل السنن والأحكام التي أتلوا عليكم لتعلموها؛ وتحفظوها؛ وتعملوا بها؛ وتعلمون [ ص: 252 ] أن الله ربنا عاهدنا عهدا بأرض حوريب؛ ولم يعاهد الله آباءنا بهذا العهد؛ بل إنما عاهدنا نحن؛ الذين ههنا؛ أحيانا سالمين؛ وجها قبل وجه؛ كلمنا الرب في النار عن الجبل؛ فأنا كنت قائما بين يدي الرب وبينكم لأظهر لكم ذلك الزمان؛ أقول: الله ربكم؛ حيث فرقتم من النار؛ ولم تصعدوا إلى الجبل؛ وقال الرب: أنا الله ربكم الذي أخرجتكم من أرض مصر؛ وخلصتكم من العبودية؛ لا يكون لكم إله غيري؛ ولا تتخذوا أصناما؛ ولا أشباها؛ ولا تقسم باسم ربك كذبا؛ لأن الرب لا يزكي من يحلف باسمه كذبا؛ احفظوا يوم السبت وطهروه)؛ إلى أن قال: (لا تعملوا فيه عملا ليستريح عبيدكم وإماؤكم معكم؛ واذكروا أنكم كنتم عبيدا بأرض مصر؛ فأخرجكم الله ربكم من هناك؛ بيد منيعة؛ وذراع عظيمة؛ لذلك أمركم ربكم أن تحفظوا يوم السبت؛ فيكرم كل امرئ منكم والديه؛ كما أمركم الله ربكم؛ لتطول أعماركم؛ وينعم عليكم في الأرض التي يعطيكم؛ لا تقتلوا؛ لا تزنوا؛ لا تسرقوا؛ لا يشتهين الرجل منكم امرأة صاحبه)؛ إلى أن قال: (ولا شيئا مما لصاحبك؛ هذه الآيات [ ص: 253 ] التي أمر بها الرب بني إسرائيل؛ وكلمهم بها في الجبل من النار؛ بالسحاب والضباب؛ بصوت عظيم لا يوصف ولا يحد؛ وهي التي كتبها على لوحي الحجارة؛ ودفعها إلى موسى النبي؛ فلما سمعتم صوتا من الظلمة؛ ورأيتم نارا تشتعل في الجبل؛ تقدم إلي رؤساؤكم؛ وقالوا: قد أرانا الله ربنا مجده؛ وكرامته؛ وعظمته؛ اليوم رأينا أن كلم الله الناس؛ وعاشوا؛ إن عدنا نسمع صوت الله ربنا متنا؛ تقدم أنت واسمع ما يقول الله ربنا؛ وقص علينا؛ فسمع الرب صوت كلامكم حين كلمتموني؛ وقال لي الرب: قد سمعت صوت الشعب؛ وما قالوا لك؛ نعم ما تكلموا به؛ ويا ليت تكون لهم قلوب هكذا؛ فتكون تسمع؛ وتطيع؛ وتتقوى؛ ويفزعون من قولي؛ ويحفظون جميع وصاياي؛ كلها احفظوا؛ واعملوا بما أمركم الله ربكم؛ ولا تحيدوا يمنة ولا يسرة؛ بل سيروا في كل الطريق الذي أمركم ربكم لتعيشوا؛ وينعم عليكم؛ وتطول [ ص: 254 ] مدتكم في الأرض التي ترثون؛ هذه السنن والوصايا والأحكام التي أمرني الله ربكم أن أعلمكم لتعلموا؛ وتتقوا الله ربكم؛ أنتم وبنوكم؛ كل أيام حياتكم؛ فتطول أعماركم؛ اسمعوا يا بني إسرائيل؛ الله ربنا واحد؛ أحبوا الله ربكم في كل قلوبكم؛ ولتكن هذه الآيات التي أمركم في قلوبكم أبدا؛ وعلموها بنيكم؛ وتكلموا بها إذا حضرتم في منازلكم؛ وإذا سافرتم؛ وإذا رقدتم؛ وإذا قمتم؛ وشدوها علامة على أيديكم؛ ويكون ميسما بين أعينكم؛ واكتبوها على قوائم بيوتكم؛ وعلى أبوابكم؛ ولا تنسوا الله ربكم؛ وإياه فاعبدوا؛ وباسمه فأقسموا؛ ولا تتبعوا الآلهة الأخرى التي تعبدها الشعوب التي حولكم؛ لأن الله ربكم الحال فيكم هو إله غيور؛ فاتقوه؛ لا يشتد غضبه عليكم؛ ويهلكم عن حديد الأرض؛ ولا تجربوا الله ربكم كما جربتموه بالبلايا؛ ولكن احفظوا وصية الله ربكم؛ وشهادته وسنته التي أمركم بها؛ فاعملوا الحسنات؛ وأنصفوا واعدلوا؛ لينعم عليكم؛ وتدخلوا وترثوا الأرض المخصبة [ ص: 255 ] التي أقسم الله لآبائكم؛ ويكسر جميع أعدائكم؛ ويهزمهم قدامكم؛ كما قال الرب؛ فإذا سألكم بنوكم غدا وقالوا: ما الشهادة والسنة والحكومة التي أمركم الله بها؟ قولوا لبنيكم: إنا كنا عبيدا لفرعون بأرض مصر؛ وأخرجنا الرب من أرض مصر بيد منيعة؛ وأنزل بأهل مصر بلاء شديدا؛ وفعل ذلك بفرعون وجميع أهل بيته تجاهنا؛ وأخرجنا الرب من هناك ليدخلنا ويعطينا الأرض التي أقسم لآبائنا؛ وأمرنا الرب أن نعمل هذه السنن كلها؛ وأن نتقي الله ربنا لينعم كل أيامنا؛ ويحيينا بالخير والنعم؛ ويكون ربنا بنا برا إذا حفظنا هذه الوصية كلها؛ وعلمناها أمام الله ربنا كما أمرنا).
وقال في السفر الخامس: (ولا تكف يدك عن العطاء والصدقة على أخيك المسكين؛ ولكن يصدق بعضكم على بعض؛ ويعطي بعضكم بعضا؛ ولا يضيق قلبك؛ ولا يحزن إذا صدقت على أخيك؛ لأنك إذا فعلت هذا القول وأوسعت على أخيك يبارك الله لك في جميع أعمالك؛ وفي كل ما تمد يدك إليه؛ من أجل أن الأرض لا تعدم المساكين؛ فلذلك [ ص: 256 ] آمرك - والعزم إليك - أن تمد يدك إلى أخيك المسكين؛ وتصدق على الفقير في الأرض)؛ وقال فيه: (أنصفوا بين إخوتكم؛ واحكموا بالحق؛ ولا تحيفوا في القضاء؛ واسمعوا من الصغير؛ كما تسمعون من الكبير؛ ولا تهابوا الرجل؛ ولو عظم شأنه؛ وكثرت أمواله؛ لأن القضاء لله)؛ وقال فيه: (صيروا لكم قضاة؛ وكتابا في جميع قراكم؛ وتقضون للشعب قضاء العدل والبر؛ ولا تحيفن في القضاء؛ ولا تحابوا؛ ولا ترتشوا؛ لأن الرشوة تعمي أعين الحكام في القضاء؛ ولكن أقضي بالحق؛ لتعيشوا؛ وتبقوا؛ وترثوا الأرض التي يعطيكم الله ربكم).
فقد علم من هذا أصول غالب ما ذكره (تعالى) في هذه السورة؛ مع ما تقدم من أشكاله في "البقرة"؛ عند قوله (تعالى): وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ؛ وغيرها من الآيات؛ وفي "آل عمران"؛ أيضا؛ وأما حد الزاني؛ وأمر القتل والجراح فسيذكر إن شاء الله (تعالى) في "المائدة".