ولما قبح سبحانه المخالقة بين القول والفعل وصور صاحبها بصورة الحمار على الهيئة السابقة، وحذر من ذلك بما هيأ به العاقل للإجابة إلى دوام الطاعة بعد أن بين أن جميع الكائنات مقرة بشمول ملكه بما لها من التسبيح بألسنة الأحوال، والقيام في مراداته بغاية الامتثال، فكان العاقل جديرا بالمبادرة إلى غاية التسبيح بلسان المقال، وختم بالتحذير من الإخبار يوم الجمع الأعظم بجميع الأعمال، قال على طريق الاستنتاج مما مضى من الترغيب والترهيب، نادبا لهم - ليكونوا أولياء الله - إلى التزكية المذكورة التي هي ثمرة الرسالة بما حاصله الإقبال بالكلية على الله والإعراض بالكلية عن الدنيا ليجمع المكلف بين التحلي بالمزايا والتخلي عن الدنايا، فخص من المزايا أعظم تسبيح يفعله العاقل في أيام الأسبوع وهو ثم الإقبال الأعظم بفعل [صلاة] الجمعة التي هي سر اليوم الذي ضيعه [اليهود] واستبدلوا به ما كان سبب تعذيبهم بعذاب لم يعذب به أحد من العالمين كما جعل نتيجة [ ص: 63 ] السورة الماضية النداء بالإرشاد إلى الإيمان والجهاد [الموجب] للأمان: الإسراع بالاجتماع العظيم في يوم الجمعة الذي يناظر الاجتماع لإجابة المنادي في يوم الجمع الأكبر، يا أيها الذين آمنوا أي أقروا بألسنتهم بالإيمان وألهبهم بأداة البعد - المشيرة إلى احتياجهم إلى التزكية - إلى المبادرة إلى الإقبال على ما يتعقب ذلك من الأوامر إذا نودي أي من أي مناد كان من أهل النداء للصلاة أي لأجل الحضور إليها وإليه عند قعود الإمام على المنبر للخطبة.
ولما كانت الإجابة يكفي في إيجابها النداء في الوقت المعروف للنداء ولا يشترط لها استغراق النداء لجميع اليوم أتى بالجار فقال: من يوم الجمعة أي فكانوا لنا تبعا مع تأخرنا عنهم في الزمان، سمي بذلك لوجوب الاجتماع فيه للصلاة، فعلة بالسكون ويضم اسم للمفعول كالضحكة للمضحوك منه، فإن فتح ميمه كان بمعنى الوقت الجامع كالضحكة للكثير الضحك، ومن جمعه أن فيه اجتمع خلق اليوم الذي عرض على من قبلنا فأبوه فكانوا كمثل الحمار يحمل أسفارا وادخره الله لنا ووفقنا لقبوله، آدم عليه الصلاة والسلام فاجتمع بخلقه جميع الخلق، وهو مذكر بيوم البعث والجمع الذي يقع فيه الإنباء بالأعمال، وتظهر فيه ظهورا بينا تاما الجلال والجمال يوم يناد المناد من مكان قريب وفيه تقوم الساعة، روى عن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه [ ص: 64 ] وسلم: أبي هريرة آدم عليه الصلاة والسلام وفيه أهبط وفيه مات وفيه تيب عليه، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيحة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس مشفقا [من الساعة] إلا الجن والإنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله تعالى شيئا إلا أعطاه إياه وفي آخر الحديث أن خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق رضي الله عنه قال: إنها آخر ساعة يوم الجمعة، وأول الصلاة بما هو أعم من فعلها وانتظارها لقول النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سلام وكان النداء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم عند باب المسجد إذا صعد صلى الله عليه وسلم على المنبر، فإذا نزل بعد الخطبة أقيمت الصلاة، وكذا في زمن "من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصليها" أبي بكر رضي الله عنهما، فلما كان وعمر رضي الله عنه وكثر الناس وتباعدت المنازل وقلت الهمم زاد مؤذنا آخر على داره التي تسمى الزوراء، فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن ثانيا الأذان الذي كان على زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا نزل من المنبر أقيمت الصلاة، ولم [يعب] أحد على عثمان زيادة الأذان الأول لعلمهم أنه من السنة بما جعل إليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: عثمان "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء [الراشدين] من بعدي".
[ ص: 65 ] ولما كان المراد إيجاب المعنى جزما من غير تردد مع قطع كل علاقة بلا التفات إلى شيء من غير ما عذر الشارع به، عبر عنه بالسعي، وهو معنى قول أنه السعي بالنية لا بالقدم، فقال: الحسن فاسعوا أي لتكونوا أولياء الله ولا تهاونوا في ذلك لتكونوا أعداءه كاليهود إلى ذكر الله أي الخطبة والصلاة المذكرة بالملك الأعظم الذي من انقطع عن خدمته هلك، هذا المراد بالسعي لا حقيقة بل هي منهي عنها كما قال صلى الله عليه وسلم:
. "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ولكن ائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا"
ولما أمر بالمبادرة إلى تجارة الآخرة، وكان طلب الأرباح لكونها [حاضرة] أعظم مانع عن أمور الآخرة [لكونها] غايته، وكان البيع أجل ذلك لتعين الفائدة فيه ولكونه أكثر ما يشتغل به أهل الأسواق لكثرة الوافدين إلى الأمصار يوم الجمعة من الحواضر واجتماعهم للتجارة عند تعالي النهار، قال ناهيا عن تجارة الدنيا وكل ما يعوق عن الجمعة معبرا به عنها لأنه أعظمها: وذروا البيع أي اتركوه ولو [على] أقبح حالاته وأذلها وأحقرها، [فأفاد] النهي عن غيره من باب الأولى، فإن خالف وباع صح العقد مع عصيانه، فإن النهي ليس [ ص: 66 ] لعينه ولا [لما] هو داخل فيه ولا لما هو خارج ولازم له بل لأمر مقارن بطريق الاتفاق، وهو ما هو فيه من الذهول عن الواجب فهو كالصلاة في الدار المغصوبة والثوب المغصوب والوضوء بالماء المغصوب. ووقت التحريم من الزوال إلى فراغ الصلاة،
ولما أمر بما هو شاق على النفوس معبرا بالفعل المريض لفظا ومعنى، رغب فيه بقوله: ذلكم أي الأمر العالي الرتبة من فعل السعي وترك الاشتغال بالدنيا خير لكم لأن الذي أمركم به له الأمر كله وهو يريد تطهيركم في أديانكم وأبدانكم وأموالكم وبيده إسعادكم وإشقاؤكم، وألهب إلى ذلك وزاد في الحث عليه بقوله: إن كنتم أي بما هو لكم كالجبلة تعلمون أي يتجدد لكم [علم] في يوم من الأيام فأنتم ترون ذلك خيرا، [فإذا علمتموه خيرا أقبلتم عليه فكان ذلك لكم خيرا]، على كل من جمع البلوغ والعقل والحرية والذكورة والإقامة إذا لم يكن له عذر مما ذكره الفقهاء، وإنما عبر عنها بهذا إشارة إلى أن عاقلا لا يسعه أن يترك ما يعلم أنه أعلى وجوه الخير، وكل من لا يجب عليه حضور الجمعة فإذا حضر وصلى مع الإمام سقط عنه فرض من الظهر ولا يكمل به عدد الجمعة إلا صاحب العذر، فإنه إذا حضر يكمل به العدد. وصلاة الجمعة فرض عين
[ ص: 67 ]