ولما كان الأمر قد بلغ النهاية في الأحكام والمواعظ والترغيب لمن أطاع، فلم يبق إلا التهديد لمن عصى بما شوهد من المثلات وبالغ [ ص: 165 ] العقوبات، فإن من الناس البليد الذي لا يتعظ بما يرى، وكان التقدير: فكأي من ناس كانوا في غاية الضيق فأطاعوا أوامرنا فجعلناهم في غاية السعة بل جعلناهم ملوكا، عطف عليه تزهيدا في الرفاهية بأنها تطغى في الأغلب، وتهديدا لأهل المعاصي قوله مفيدا لكثرة القرى الخارجة عن الحد: وكأين من قرية أي مدينة كبيرة جامعة، عبر عن أهلها بها مبالغة عتت أي استكبرت وجاوزت الحد في عصيانها وطغيانها فأعرضت عنادا عن أمر ربها أي الذي أحسن إليها ولا محسن إليها غيره بكثرة الرزق وطيب العيش واللطف في التربية والرحمة بعد الإيجاد والملك ورسله فلم يقبل منهم ما جاؤوها به عن الله، فإن طاعتهم من طاعة الله.
ولما كانت محاسبة مثل هؤلاء [ للإهلاك -] لأن الحساب هو ذكر الأعمال والمجازاة عليها بما يحق لكل منها، قال ملتفتا إلى مقام التكلم في مظهر العظمة: فحاسبناها أي فتسبب عن عدم شكرهم للإحسان أن أحصينا أعمالها. ولما كان ذلك على وجه المناقشة على النقير والقطمير بالمجازاة على [ كل -] فعل بما يليق به قال: حسابا شديدا بمعناه المطابقي من ذكر الأعمال كلها والمجازاة عليها، وهذا هو [ ص: 166 ] المناقشة وهي أن العامل إذا أثر أثرا بعمله هو كالنقش في الجامد أثر المجازي له فيه أثرا بحسب عمله على سبيل الاستقصاء، وأما الحساب اليسير فهو عرض الأعمال فقط من غير جزاء على قبيحها فهو دلالة تضمن، وإنما شدد على هذه القرية لأن إعراضها كان كذلك بما نبه عليه تسميته عتوا وعذبناها أي في الدنيا جزاء على ما أحصيناه من ذنوبها عذابا نكرا أي شديد النكارة لأن العقل يحير في أمره لأنه لم ير مثله ولا قريبا منه ليعتبره به، وأزال ذكر الكثرة شبهة أن يكون الإهلاك وقع اتفاقا في وقت من الأوقات