لما ختم سبحانه الطلاق بإحاطة علمه وتنزل أمره بين الخافقين في تدبيره، دل عليه أول هذه بإعلاء أمور الخلق بأمر وقع بين خير خلقه وبين نسائه اللاتي من خير النساء واجتهد كل في إخفاء ما تعلق به منه فأظهره سبحانه عتابا لأزواج نبيه صلى الله عليه وسلم في صورة عقابه لأنه أبلغ رفقا به لأنه يكاد من شفقته أن يبخع نفسه الشريفة [ ص: 180 ] رحمة لأمته تارة لطلب رضاهم وأخرى رغبة في هداهم، لأنه صلى الله عليه وسلم بالغ في تهذيب أخلاقه مع ما طهره الله به من نزاهتها عن كل دنس حتى ضيق [ عليها -] بالامتناع عن بعض ما أبيح له حفظا لخاطر الغير، فقال تعالى مناديا له بأداة البعد وهو أقرب أهل الحضرة مع أنها معدة لما يكون ذا خطب جليل ومعنى جسيم جليل، وفيها إيماء إلى تنبيه الغير وإسماعه إرادة لتأديبه وتزكيته وتهذيبه: يا أيها النبي مخاطبة بالوصف الذي يعلم بالعصمة ويلائمه أشد الملاءمة خلو البال وسرور القلب وانشراح الصدر لأنه للتلقي عن الله تعالى فيحث كل سامع على البعد عن كل ما يشوش عليه صلى الله عليه وسلم أدنى تشويش لم تحرم أي تفعل [ فعل المحرم -] بمنع نفسك الشريفة ما أحل الله أي الملك الذي لا أمر لأحد معه لك بالوعد لبعض أمهات المؤمنين رضي الله عنهن بالامتناع من شرب العسل الذي كان عند أو حفصة رضي الله عنهما والامتناع من ملامسة سريتك زينب مارية رضي الله تعالى عنها فتضيق على نفسك لإحسان العشرة مع نسائك رضي الله عنهن أجمعين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب عسلا عند أو حفصة بنت عمر رضي الله عنهما على اختلاف [ ص: 181 ] الروايتين في ذلك في الصحيح، وفي رواية زينب بنت جحش رضي الله عنهما عكة من العسل، فكانت إذا دخل [ عليها فسلم -] حبسته وسقته منها، وأن لحفصة بنت عمر رضي الله عنها أنكرت احتباسه عندها فقالت عائشة عندها حبشية يقال لها لجويرية خصرة: إذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فادخلي عليها فانظري ماذا يصنع فأخبرتها الخبر فوصت صواحباتها فنفرنه من شربه بإخباره بأنه يوجد منه ريح كريهة لأن نحلة جرست العرفط، فقال: لن أعود له،" حفصة وروى "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الغداة دخل على نسائه رضي الله عنهن امرأة امرأة، وكانت قد أهديت الطبري وابن مردوية "أنه صلى الله عليه وسلم خلا بمارية رضي الله عنها أم ولده إبراهيم عليه السلام في بيت رضي الله عنها [ فتوجعت من ذلك حفصة رضي الله عنها -] فقال هي [ علي -] حرام ولا تذكري [ ذلك -] لأحد وأبشرك على ذلك بشارة، وهي أن حفصة يلي هذا الأمر من بعدي وأباك يليه من بعد أبا بكر رضي الله عنهما، لا تخبري بذلك أحدا، فأخبرت أبي بكر رضي الله عنها" عائشة
ويروى رضي الله عنها قالت في يومها من النبي صلى الله عليه وسلم: "إن بي إلى أبي حاجة نفقة له عنده فائذن [ لي -] أن [ ص: 182 ] أزوره وآتي بها، فأذن لها فلما خرجت أرسل إلى جاريته حفصة مارية القبطية رضي الله عنها فوقع عليها فأتت فوجدت الباب مغلقا فجلست عنده فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يقطر عرقا حفصة تبكي فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: إنما أذنت [ لي -] من أجل هذا وقعت عليها في يومي وعلى فراشي، أما رأيت [ لي -] حرمة وحقا ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن، فقال صلى الله عليه وسلم: أليس هي جاريتي قد أحلها الله لي اسكتي فهي علي حرام ألتمس بذاك رضاك فلا تخبري بهذا أحدا، فلما خرج أخبرت وحفصة رضي الله عنها فحلفته على ترك عائشة مارية رضي الله عنهن" ثم علل ذلك سبحانه بقوله: أن تبتغي [ أي -] تريد إرادة عظيمة من مكارم أخلاقك وحسن صحبتك مرضات أزواجك أي الأحوال والمواضع والأمور التي يرضين بها ومن أولى بأن تبتغين رضاك وكذا جميع الخلق لتفرغ لما يوحى إليك من ربك لكن ذلك للزوجات آكد.
ولما كان أعلى ما يقع به المنع من الأشياء من جهة العباد الإيمان، وكان تعالى قد جعل من رحمته لعباده لإيمانهم كفارة قال: والله أي تفعل ذلك لرضاهن والحال أن الله الملك الأعلى غفور رحيم [ ص: 183 ] أي محاء ستور لما يشق على خلص عباده مكرم لهم، ثم علل أو بين بقوله: