ولما كان نوح عليه الصلاة والسلام أول رسول أرسله الله تعالى إلى المخالفين من أهل الأرض، وكان قومه عباد أوثان، وعصوه أشد العصيان مع أنه كان منهم نسبا ولسانا، وختمت سورته بدعائه عليهم، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فهو آخر رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض وغيرهم من جميع الخلق، وكان قومه العرب قد وافقوا قوم نوح عليه السلام في أكثر أحوالهم عبادة الأوثان حتى تلك الأوثان إما بأساميها أو بأعيانها على ما ورد في الأخبار، وفي عصيان رسولهم واستضعاف أتباعه واستهزائهم ابتدئت، هذه بما كان من سهولة من سمع هذه الدعوة الخاتمة الجامعة من غير الجنس فضلا [ ص: 462 ] عن الموافقين في الجنس مع قصر الزمان وضعف الأعوان لجلالة هذا القرآن، فقال منبها له بالأمر على ما في هذا من عظيم القدر، مع الإشارة إلى تبكيت العرب على التباطؤ عن الإجابة إلى ما يعرفون من رشده بمعناه ونظمه، لكونه بلسانهم وكونهم من نوع الداعي وقبيله وأقرب الناس إليه قل أي يا محمد لقومك.
ولما كان المقصود تعظيم الموحى به، وأما الموحي إلى كل من الرسولين فواحد، بنى للمفعول قوله مبينا لسيرة الجن في تلقيهم لهذا القرآن بالأخذ إرثا من أشرف النبيين وإلقائهم له بالإبلاغ إلى غيرهم من وارث العلم منهم ليكون لهم الشرفان: شرف العلم لكمال أنفسهم، والتعليم لتكميل غيرهم، فيكون لهم مثل أجر من عمل بما ألقوه إليه وأملوه عليه: أوحي إلي أي أخبرت على وجه الخفاء ممن لا يعلم الغيب غيره في هذا القرآن الذي اقتضى إعجازه أن أكون أكثر الأنبياء تابعا على لسان جبريل عليه السلام الذي هو أمينه والواسطة بينه وبين أنبيائه، ثم وضع موضع المفعول الذي لم يسم فاعله قوله: أنه أي الشأن العظيم استمع أي بغاية الإصغاء والإقبال والتقبل والإلف استماعا هو الاستماع في الحقيقة لأنه لقراءتي هذا القرآن نفر هم في غاية النفرة جبلة وطبعا من الجن الذين هم في غاية الاستتار، وهم أجسام حية عاقلة خفيفة تغلب عليها النارية أو الهوائية كما تغلب على أجسام الإنس الترابية، والنفر ما بين [ ص: 463 ] الثلاثة والعشرة، قال : وكانوا تسعة من جن البغوي نصيبين، وقيل: كانوا سبعة، وفي هذه العبارة دليل على أنه صلى الله عليه وسلم ما رآهم ولا قرأ عليهم، وإنما اتفق حضورهم عند قراءته، وهل هذا الاستماع هو المذكور في الأحقاف أو غيره قال أبو حيان : المشهور أنه هو، وقيل: هو غيره، والجن الذين أتوه بمكة جن نصيبين، والذين أتوه بنخلة جن نينوى، والسورة [ التي -] استمعوها قال : العلق، وقيل: الرحمن، ولم يذكر هنا ولا في الأحقاف أنه رآهم، ويظهر من الحديث تعدد الواقعة، فمنها ما كان في المبدأ ولم يكن معه أحد من الصحابة رضي الله عنهم كما في حديث عكرمة رضي الله عنه الذي في الصحيح عبد الله بن مسعود
"أنهم فقدوه صلى الله عليه وسلم ليلة "من الليالي" فالتمسوه في الأودية والشعاب، فلما أصبح إذا جاء من قبل حراء فقال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، ومنها ما كان معه أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن، عبد الله رضي الله عنه فذهب معه إلى الحجون عند الشعب فخط عليه خطا، وقال: لا تجاوزه، فانحدر عليه أمثال الحجل يجرون الحجارة بأقدامهم حتى غشوه فلا أراه، وأومأ إلي بيده أن اجلس، فتلا القرآن، فلم يزل صوته يرتفع واختفوا بالأرض حتى ما أراهم" قال الأصبهاني: وقيل: كانوا من بني الشيصبان [ ص: 464 ] وهم أكثر الجن عددا وهم عامة جنود إبليس، وقال القشيري: لما رجمت الشياطين بالشهب فرق إبليس جنوده لعلم ذلك فأتى سبعة منهم بطن نخلة فاستمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا ثم أتوا قومهم فقالوا: يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا، يعني ولم يرجعوا إلى إبليس لما علموه من كذبه وسفاهته، وجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سبعين من قومهم فأسلموا، فذلك قوله تعالى: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه الآيات فقالوا أي فتسبب عن استماعهم أن قال من سمع منهم لمن لم يسمع، أو لمن كان يواخيهم من الإنس امتثالا لقول النبي صلى الله عليه وسلم "رحم الله امرأ سمع منا مقالة فوعاها فأداها كما سمعها" وكان قولهم سكونا إلى هذا القرآن وأنسابه، مؤكدين لبعد حالهم عن سماع الوحي وعلمهم بما زاد به من الإعجاز: إنا بالكسر لأنه مبتدأ محكي بعد القول سمعنا حين تعمدنا الإصغاء وألقينا إليه أفهامنا قرآنا أي كلاما هو في غاية الانتظام [ في نفسه -] والجمع لجميع ما نحتاج إليه، ثم وصفوه بالمصدر مبالغة في أمره فقالوا: عجبا أي بديعا [ خارجا -] عن عادة أمثاله من [ جميع -] الكتب الإلهية فضلا عن كلام الناس [ ص: 465 ] في جلالة النظم وإعجاز التركيب والوضع مع الموافقة لها في الدعوة إلى الله تعالى والبيان للمحاسن والمساوئ والدعاء إلى كل فلاح حتى صار نفس العجب، والعجب ما خرج عن حد أشكاله ونظائره فخفي سببه، وهذا يدل على قوتهم العلمية في فصاحتهم وكمالهم في علم الرسوم، وصوغ الكلام على أبلغ جهات النظوم.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تقدم ذكر حال كفار قريش في تعاميهم عن النظر وجريهم في اللدد والعناد حسبما انطوت عليه سورة ن والقلم، ثم أتبعت بوعيدهم في الحاقة ثم بتحقيقه وقرب وقوعه في المعارج ثم بتسليته عليه الصلاة والسلام وتأنيسه بقصة نوح عليه الصلاة والسلام مع قومه، أعقب ذلك بما يتعظ به الموفق ويعلم أن القلوب بيد الله: فقد كانت استجابة معاندي قريش والعرب أقرب في ظاهر الأمر لنبي من جنسهم و[ من -] أنفسهم فقد تقدمت لهم معرفة صدقه وأمانته، ثم جاءهم بكتاب بلسانهم الذي به يتحاورون ولغتهم التي بها يتكلمون، فقد بهرت العقول آياته، ووضحت لكل ذي قلب سليم براهينه ومعجزاته، وقد علموا أنهم لا يقدرون على معارضته إلى ما شاهدوه من عظيم البراهين، ومع ذلك عموا وصموا - غضب الله عليهم ولعنهم - وسبق إلى الإيمان من ليس [ من -] جنسهم ولا سبقت [ ص: 466 ] له مزية تكريمهم، وهم الجن ممن سبقت لهم من [ الله -] الحسنى فآمنوا وصدقوا، وأمر صلى الله عليه وسلم بالإخبار بذلك، فأنزل الله تعالى [ عليه -] قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن الآيات إلى قوله إخبارا عن تعريف الجن سائر إخوانهم بما شاهدوه من عناد كفار العرب "وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا" ثم استمرت الآي ملتحمة المعاني معتضدة المباني إلى آخر السورة - انتهى.