ولما تقرر أن من الناس من ترك الهدى الذي هو البيان، فعمي [ ص: 154 ] عنه لإعراضه عنه، سبب عن هذا الإنزال وذاك الضلال قوله منبها على أمراض القلوب، ومرشدا إلى دوائها: فاصبر لحكم ربك أي المحسن إليك بتخصيصه لك بهذه النعمة على ضلال من حكم بضلاله، وعلى كل ما ينوبك [وأطعه -] في التعبد له بجميع ما أمرك به من الرفق إلى أن يأمرك بالسيف، واستعن على مر الصبر باستحضار أن المربي الشفيق يربي بما يشاء من المر والحلو على حسب علمه وحكمته، والصبر: حبس النفس وضبطها على مقاومة الهوى لئلا تنقاد إلى شيء من قبائح اللذات.
ولما وكان الأمر به مفهما وجوده للمخالف، وكان المخالفون له صلى الله عليه وسلم هم القسم المضاد للشاكر وهم الكفرة، وكان ما يدعونه إليه تارة مطلق إثم، وأخرى كفرا وتارة غير ذلك، ذكر النتيجة ناهيا عن القسمين الأولين ليعلم أن المسكوت عنه لا نهي فيه فقال: أمره سبحانه بالصبر، ولا تطع منهم أي الكفرة الذين هم ضد الشاكرين آثما أي داعيا إلى إثم سواء كان مجردا عن مطلق الكفر أو مصاحبا له أو كفورا أي مبالغا في الكفر وداعيا إليه وإن كان كبيرا وعظيما في الدنيا فإن الحق أكبر من كل كبير، [ ص: 155 ] وذلك أنهم كانوا مع شدة الأذى له صلى الله عليه وسلم يبذلون له الرغائب من الأموال، والتمليك والتزويج لأعظم نسائهم على أن يتبعهم على دينهم ويكف عما هو عليه والنهي عن الأحد المبهم نهي عن كل منهما، فإن كلا منهما في أنه يجب اجتنابه في رتبة واحدة وذروا ظاهر الإثم وباطنه وكذا الانتهاء عنه لا يتحقق إلا بالانتهاء عن كل منهما، ولو عطف بالواو لم يفد ذلك لأن نفي الاثنين لا يستلزم نفي كل منهما، وأفهم ترتيب النهي على الوصفين أنه إذا دعاه الكفار إلى ما لا يتعلق به إثم ولا كفر جاز له قبوله.