ولما كانت هذه الأفعال خيرا في نفسها تدل على جودة الطبع وعلو الهمة وكرم العنصر وإباء النفس إشارة إلى شدة حسنها لأنه لا يوفق لها إلا مخلص وإن كان غير مستند إلى شرع وإلى ما يفيده من سلاسة الطبع وسهولة الانقياد وإلى عظمة الإيمان بالتعبير بأداة التراخي في قوله مشيرا إلى العقبة الثانية وهي الحكمة المزكية للقوة النطقية: ثم كان أي بعد التخلق بهذه الأخلاق الزاكية العالية النفيسة الغالية في حال كفره أو مبادئ إسلامه للدلالة على صفار جبلته وجودة عنصره من الراسخين في الإيمان المعبر عنه بقوله: من الذين آمنوا أي عند ما دعاه إليه الهادي، ولم تحمله حمية الأنف وشماخة النفس [ ص: 64 ] على الإباء عن أن يكون تابعا بعد ما كان متبوعا، وسافلا في زعمه إثر ما كان رفيعا، بل سدد النظر وقوم الفكر فأيقن أنه يعلي نفسه من الحضيض إلى ما فوق السهى، يرقيها في درج المعالي إلى ما ليس له انتهاء، إن في ذلك لآيات لأولي النهى ، فحينئذ يعلم استقامة طبعه وكرم غريزته وعلي همته وحسن نيته وجميل طويته وغزارة عقله وجلالة نبله وفضله واستحقاقه التقدم على الأعلام في الجاهلية والإسلام، ولذلك كان رضي الله تعالى عنه الصديق عليهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام، لأن هذه كانت أفعاله رضي الله تعالى عنه قبل الإسلام كما قال أعلى الناس درجة بعد النبيين ابن الدغنة حين وجده قد خرج من مكة المشرفة يريد الهجرة حين آذاه الكفار: إن مثلك يا لا يخرج ولا يخرج، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكل وتعين على نوائب الحق - كما قالت أبا بكر رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم حين رجع إليها ترجف بوادره من تجلي خديجة جبريل عليه الصلاة والسلام له سواء، فلما سرب في رحيب مسربه، وشرب من صافي مشربه، توفيقا من الله تعالى لم يتلعثم حين دعاه إلى الدين و[لا] كانت عنده كبوة ولا تردد، ثم ترقى في درجات الإسلام إلى أعلى مرام بحيث قال يوم الحديبية رضي الله عنهما حين أظهر الكراهة للصلح ما [ ص: 65 ] قال له النبي صلى الله عليه وسلم سواء حرفا بحرف من غير أن يكون حاضره أو ينقل إليه كلامه، فسار حينئذ حائزا قصب السبق، لا مطمع في مداناته، فكيف بلحاقه ومساواته، ولكماله وعظمته وجلاله لم يشرب قط خمرا، وكان إذا ليم على ذلك في الجاهلية قال [لعشراء]: والله لو وجدت شيئا يزيد في عقلي لاشتريته بجميع مالي فكيف أشتري بمالي ما يزيل عقلي. وتلك الأعمال لا تصح وإن كانت ممدوحة في كل حال إلا بالإيمان، أما إن كانت بعده فواضح، وأما إن كانت قبله فبانعطافه عليها كما قال صلى الله عليه وسلم: لعمر
" " . أسلمت على ما سلف منك من خير
ولما كان إلى عظم الشأن، حاملا له على محاسن الأعمال ومكارم الأفعال، وذلك أنه يقود إلى جميع شرائع الدين العظيمة الشأن، وكانت موجبة للجهاد الأكبر من حيث مخالفتها للطبع، وكان ذلك غير مقدور عليه إلا بالشجاعة وهي القوة الثالثة التي إذا هدئت أراحت، وكانت لا تكون إلا بعظيم الصبر، وكان الصبر لمرارته لا يدوم إلا بالتعاون قال تعالى: الإيمان معليا للإنسان عن درك الهوان وتواصوا [ ص: 66 ] أي صبروا وأوصى بعضهم بعضا بالصبر في اقتحام عقبات الأعمال التي لا يجوزها إلا أبطال الرجال من الأمر بالمعروف إلى ما دونه وإن كان فيه الحتوف، فإن الشجاعة كما قيل صبر ساعة.
ولما كان الإنسان لا بد أن يعرض له من غيره من الخلاف ما يوجب قسوته عليه، فكانت الرحمة من ثمرات الاصطبار المثمر للعدالة، وهي التوسط بين مذمتي الإفراط والتفريط في الفسق والبله وهي العقبة الرابعة، قال مؤكدا بإعادة العامل إشارة إلى قلة العاملين بها: وتواصوا بالمرحمة أي الرحمة العظيمة بحسب زمانها ومكانها بأن يوطنوا أنفسهم على كل ما يحمل على الرحمة العظيمة التي توجب لهم الحب في الله والبغض فيه لأنهم كانوا قبل الإيمان خالصين عن الرياء والإعجاب متهيئين للتزكية فزكاهم الإيمان، فصاروا في غاية النورانية والعرفان.