ولما خصصهم بالخيرية، ذكر ثوابهم، فقال ذاكرا جنة أبدانهم معظما لهم بالتعبير عن إنعامه عليهم بلفظ الجزاء المؤذن بأنه مقابلة ما وصفوا به: جزاؤهم أي على طاعاتهم، وعظمه بقوله: عند ربهم إليهم المربي لهم وأي المحسن جنات عدن أي إقامة لا تحول عنها تجري أي جريا دائما لا انقطاع له. ولما كان عموم الماء مانعا من تمام اللذة، قرب وبعض بقوله: من تحتها أي تحت أرضها وغرفها وأشجارها الأنهار
ولما كانت قال: اللذة لا تكمل إلا بالدوام خالدين فيها ولما كان النظر إلى الترغيب في هذا السياق أتم حثا على اتباع الدليل [ ص: 198 ] المعروف، والمفارقة للحال المألوف، أكد معنى الخلود تعظيما لجزائهم بقوله: أبدا
ولما كان هذا [كله] ثمرة الرضا، وكان التصريح به أقر للعين لأنه جنة الروح، قال مستأنفا أو معللا: رضي الله أي بما له من نعوت الجلال والجمال عنهم أي بما كان سبق لهم من العناية والتوفيق. ولما كان الرضا إذا كان من الجانبين، كان أتم وأعلى لهم قال: ورضوا عنه لأنهم لم يبق لهم أمنية إلا أعطاهموها مع علمهم أنه متفضل في جميع ذلك، لا يجب عليه لأحد شيء ولا يقدره أحد حق قدره، فلو أخذ الخلق بما يستحقونه أهلكهم، وأعظم نعمه عليهم ما من عليهم به من متابعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك كان سببا لكل خير.
ولما كان ذلك ربما ادعى أنه لناس مخصوصين في زمان مخصوص، قال معمما له ومنبها على الوصف الذي كان سبب أعمالهم التي كانت سبب جزائهم: ذلك أي الأمر العالي الذي جوزوا به لمن خشي ربه أي خاف المحسن إليه خوفا يليق به، فلم يركن إلى التسويف والتكاسل، ولم يطبع نفسه بالشر بالجري مع الهوى في التطعم بالمحرمات بل كان ممن [ ص: 199 ] يطلب معالي الأخلاق فيستفتي قلبه فيما يرضي ربه، فكان تواتر إحسانه يزيده خوفا فيزيده شكرا، فإن الخشية ملاك الأمر، والباعث على كل خير، وهي للعارفين، قال الملوي ما معناه: إن الإنسان إذا استشعر عقابا يأتيه أو خسرا، لحقته حالة يقال لها فإن اشتد سمي وجلا لجولانه في نفسه، فإذا اشتد سمي رهبا لأدائه إلى الهرب، وهي حالة المؤمنين الفارين إلى الله ومن غلب عليه الحب لاستغراق في شهود الجماليات لحقته حالة تسمى مهابة إذ لا ينفك عن خوف إبعاد أو صد لغفلة أو ذلة، ومن غلب عليه التعظيم لاستغراق في شهود الجلاليات صار في الإجلال، ووراء هذه الخشية الخوف وهي انخلاع القلب عن طمأنينة الأمن وقلقه واضطرابه لتوقع مكروه،
إنما يخشى الله من عباده العلماء فمن خاف ربه هذا الخوف انفك من جميع ما عنده مما لا يليق بجنابه سبحانه، ولم يقدح في البينة ولا توقف فيها، وما فارق الخوف قلبا إلا خرب، فكان جديرا بأن يقدح في كل ما أدى إلى العمارة، وقد رجع آخر السورة على أولها بذلك، وبتصنيف الناس صنفين: صنف انفك عن هوى نفسه فأنجاها، وصنف استمر في أسرها فأرداها، وقد ذكرت في "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" سر تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه بقراءة هذه السورة عليه بخصوصها، وحاصله [ ص: 200 ] أن سبب تخصيصه بذلك أنه وجد اثنين من الصحابة رضي الله عنهم قد خالفاه في القراءة فرفعهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهما فعرضا عليه فحسن لهما، قال: فسقط في نفسي من التكذيب أشد مما [كان] في الجاهلية، فضرب صلى الله عليه وسلم في صدري ففضت عرقا، وكأنما أنظر إلى الله فرقا، ثم قص علي خبر التخفيف بالسبعة الأحرف، وكانت السورة التي وقع فيها الخلاف النحل وفيها أن الله يبعث رسوله صلى الله عليه وسلم يوم البعث شهيدا، وأنه نزل عليه الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة، وأنه نزل عليه روح القدس بالحق ليثبت الذين آمنوا، وأن اليهود اختلفوا في السبت، وسورة " لم يكن " على قصرها حاوية إجمالا لكل ما في النحل على طولها بزيادة، وفيها لأبي ، وتقبيح حال من فعل ذلك، وأن حاله يكون كحال الكفرة من أهل الكتاب في العناد، فيكون شر البرية، فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم [عليه] رضي الله عنه تذكيرا له بذلك كله على وجه أبلغ وأخصر ليكون أسرع له تصورا فيكون أرسخ في النفس وأثبت في القلب وأعشق للطبع، فاختصه الله بالتثبيت وأراد له الثبات، فكان من المريدين المرادين لما وصل إليه قلبه ببركة ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لصدره من كشفه الحجب ونفي الشياطين والنظر إلى سبحات القدس [ ص: 201 ] وشهود تلك الحضرة الشماء، وصيرورته إلى أن يكون أصفى الصحابة رضي الله عنهم مراقبة لتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم بما يتذكر من الأمر الشريف بتخصيصه بذلك، فيصير كلما قرأ هذه السورة الجامعة غائبا عن تلاوة نفسه مصغيا بأذني قلبه إلى روح النبوة يتلو عليه ذلك فيدوم له حال الشهود الذي وصل إليه بسر تلك الضربة. التحذير من الشك بعد البيان
ولثبوته في هذا المقام قال صلى الله عليه وسلم: " " رواه أقرؤكم أبي أحمد والترمذي عن وابن ماجه رضي الله تعالى عنه وهو صحيح، ورواه بعضهم مرسلا، ومما فيه ولم أذكره في المصاعد سنة التواضع حتى لا يمنع أحدا ما يراه من علوه من القراءة على من هو دونه فإنه ما منع أكثر أهل الكتاب من الإسلام إلا رؤية ما كانوا عليه من العلم بكتب الله وسنن الرسل عليهم الصلاة والسلام وجهل العرب بذلك، فنظروا إلى ما كان ولم ينظروا إلى الحالة الراهنة الآن، فحلق الحسد أديانهم وسلبهم إيمانهم، وصاروا أشقى الناس - كما نبه عليه أول السورة - نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة - آمين. أنس