ولما أخبر (تعالى) بما على المفرقين بين الله ورسله؛ وما لأضدادهم؛ أتبعه بعض ما أرادوا به الفرقة؛ وذلك أن كعب بن الأشرف؛ وفنحاص بن عازورا؛ من اليهود؛ قالا كذبا: إن كنت نبيا فأتنا بكتاب جملة من السماء؛ نعاينه حين ينزل؛ كما أتى موسى - عليه الصلاة والسلام - بكتابه كذلك؛ فأنزل الله (تعالى) - موبخا لهم على هذا الكذب؛ مشيرا إلى كذبهم فيه؛ موهيا لسؤالهم؛ محذرا من غوائله؛ مبينا لكفرهم بالله ورسله -: يسألك ؛ ولما كانت هذه من أعظم شبههم التي أضلوا بها من أراد الله؛ وذلك أنهم رأوا أن هذا الكتاب المبين أعظم المعجزات؛ وأن العرب لم يمكنهم الطعن فيه؛ على وجه يمكن قبوله؛ فوجهوا مكايدهم نحوه [ ص: 454 ] بهذه الشبهة؛ ونحوها؛ زيفها - سبحانه وتعالى - أتم تزييف؛ وفضحهم بسببها غاية الفضيحة؛ وزاد - سبحانه - في تبكيتهم؛ بقوله: أهل الكتاب ؛ إشارة إلى أن العالم ينبغي له أن يكون أبعد الناس من التمويه؛ فضلا عن الكذب الصريح؛ أن تنـزل عليهم ؛ أي: خاصا بهم؛ بإثبات أسمائهم؛ كتابا من السماء وما أوهموا به في قولهم هذا؛ من أن موسى - عليه الصلاة والسلام - أتى بالتوراة جملة كذبة تلقفها منهم من أراد الله (تعالى) من أهل الإسلام؛ ظنا منهم أن الله - تبارك وتعالى - أقرهم عليها؛ وليس كذلك - كما يفهمه السياق كله؛ ويأتي ما هو كالصريح فيه في قوله: إنا أوحينا إليك ؛ الآية؛ كما سيأتي بيانه؛ واليهود الآن معترفون بأنها لم تنزل جملة؛ وقال في قصة البقرة التي ذبحوها لأجل القتيل الذي تداروا فيه: وذلك قبل نزول القسامة في التوراة. الكلبي
ولما كان هذا مما يستعظمه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أشار إلى ذلك؛ مبينا - تسلية له - صلى الله عليه وسلم - أن عادتهم التعنت؛ وديدنهم الكفر؛ وأنهم أغرق الناس في غلظ الأكباد؛ وجلافة الطبائع؛ وأن أوائلهم تعنتوا على من يدعون الإيمان به الآن؛ وأنهم على شريعته؛ وأحب شيء فيه ما أراهم من تلك الآيات العظام؛ التي منها استنقاذهم من العبودية؛ بل من الذبح؛ وأن ذلك تكرر منهم؛ مع ما يشاهدونه من القوارع؛ والعفو؛ [ ص: 455 ] فقال: فقد ؛ أي: إن تستعظم ذلك؛ فقد سألوا ؛ أي: آباؤهم؛ أي: وهم على نهجهم في التعنت؛ فهم شركاؤهم؛ موسى ؛ لغير داع؛ سوى التعنت؛ أكبر ؛ أي: أعظم؛ من ذلك ؛ أي: الأمر العظيم الذي واجهوك به؛ بعد ما أظهرت من المعجزات ما أوجبنا على كل من علمها الإيمان بك؛ والتأديب معك؛ ثم بينه بقوله: فقالوا أرنا الله ؛ أي: الملك الأعلى؛ الذي لا شبيه له؛ وتقصر العقول عن الإحاطة بعظمته؛ جهرة ؛ أي: عيانا؛ من غير ستر؛ ولا حجاب؛ ولا نوع من خفاء؛ بل تحيط به أبصارنا؛ كما يحيط السمع بالقول الجهر؛ وهذا يدل على أن كلا من السؤالين ممنوع؛ لكونه ظلما؛ لأدائه إلى الاستخفاف بما نقدمه من المعجزات؛ وعده غير كاف؛ مع أن إنزال الكتاب جملة غير مناسب للحكمة التي بنيت عليها هذه الدار من ربط المسببات بالأسباب؛ وبنائها عليها؛ لأن من المعلوم أن تفريق الأوامر سبب لخفة حملها؛ وذلك أدعى لامتثالها؛ وأيسر لحفظها؛ وأعون على فهمها؛ وأعظم تثبيتا للمنزل عليه؛ وأشرح لصدره؛ وأقوى لقلبه؛ وأبعث لشوقه؛ والرؤية على هذا الوجه الذي طلبوه - وهو الإحاطة - محال؛ فسؤالهم لذلك استخفاف؛ مع أنه تعنت؛ ولذلك سبب عن سؤالهم قوله: فأخذتهم ؛ أي: عقب هذا السؤال؛ وبسببه؛ من غير إمهال؛ أخذ قهر وغلبة؛ الصاعقة ؛ أي: نار نزلت من [ ص: 456 ] السماء بصوت عظيم؛ هو جدير بألا يسمى غيره - إذا نسب إليه - "صاعقة"؛ فأهلكتهم؛ بظلمهم ؛ أي: بسبب ظلمهم بهذا السؤال؛ وغيره؛ لكونه تعنتا من غير مقتض له أصلا؛ وبطلب الرؤية على وجه محال؛ وهو طلب الإحاطة؛ ثم ؛ بعد العفو عنهم؛ وإحيائهم من إماتة هذه الصاعقة؛ اتخذوا العجل ؛ أي: تكلفوا أخذه؛ وعتوا أنفسهم باصطناعه.
ولما كان الضال بعد فرط البيان أجدر بالتبكيت؛ قال: من بعد ؛ وأدخل الجار إعلاما بأن اتخاذهم لم يستغرق زمان البعد؛ بل تابوا عنه؛ ما جاءتهم البينات ؛ أي: بهذا الإحياء؛ وغيره من المعجزات؛ فعفونا ؛ أي: على ما لنا من العظمة؛ عن ذلك ؛ أي: الذنب العظيم؛ بتوبتنا عليهم؛ من غير استئصال لهم؛ وآتينا ؛ أي: بعظمتنا التي لا تدانيها عظمة؛ موسى سلطانا ؛ أي: تسلطا؛ واستيلاء قاهرا؛ مبينا ؛ أي: ظاهرا؛ فإنه أمرهم بقتل أنفسهم؛ فبادروا الامتثال بعد ما ارتكبوا من عظيم هذا الضلال؛ وفيه رمز ظاهر إلى أنه - سبحانه وتعالى - يسلط محمدا - صلى الله عليه وسلم - على كل من يعانده أعظم من هذا التسليط.