ولما نهاهم عن ذلك وقبحه عليهم؛ علله؛ محذرا منه؛ بقوله (تعالى) - بانيا للمفعول؛ لأن الفاعل معروف بقرينة من هو على لسانهما -: لعن ؛ ووصفهم بما نبه على علة لعنهم؛ بقوله: الذين كفروا ؛ وصرح بنسبتهم؛ تعيينا لهم؛ وتبكيتا؛ وتقريعا؛ فقال: من بني إسرائيل ؛ وأكد هذا اللعن؛ وفخمه بقوله: على لسان داود ؛ أي: الذي كان على شريعة موسى - عليه السلام -؛ وذلك باعتدائهم في السبت؛ فصاروا قردة؛ وعيسى ابن مريم ؛ أي: الذي نسخ شرع موسى - عليه السلام -؛ بكفرهم بعد المائدة؛ فمسخوا خنازير؛ لأنهم خالفوا النبيين معا؛ فلا هم تعبدوا بما دعاهم إليه داود - عليه السلام - من شرعهم - الذي هم مدعون التمسك به؛ وعارفون [ ص: 260 ] بأن ما دعاهم إليه منه - حقا؛ ولا هم خرجوا عنه إلى ما أمروا بالخروج إليه على لسان موسى - عليه السلام -؛ في بشارته به؛ متقيدين بطاعته؛ فلم تبق لهم علة من التقيد به؛ ولا التقيد بحق دعاهم إليه غيره؛ فعلم قطعا أنهم مع الهوى؛ كما مضى؛ ولم ينفعهم؛ مع نسبتهم إلى واحدة من الشريعتين؛ نسبتهم إلى إسرائيل - عليه السلام -؛ فإنه لا نسب لأحد عند الله دون التقوى؛ لا سيما في يوم الفصل؛ إذ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين.
ولما أخبر بلعنهم؛ وأشار إلى تعليله بكفرهم؛ صرح بتعليله بقوله: ذلك ؛ أي: اللعن التام؛ بما ؛ أي: بسبب ما؛ عصوا ؛ أي: فعلوا في ترك أحكام الله فعل العاصي على الله؛ وكانوا يعتدون ؛ أي: كانت مجاوزة الحدود؛ التي حدها الله لهم؛ خلقا.
ذكر الإشارة إلى لعنهم في الزبور؛ والإنجيل؛ قال في المزمور السابع والسبعين من الزبور: (أنصت يا شعبي لوصاياي؛ قربوا أسماعكم إلى قول فمي؛ فإني أفتح بالأمثال فمي؛ وأنطق بالسرائر الأزلية التي سمعناها؛ وعرفناها؛ وأخبرنا آباؤنا بها؛ ولم يخفوها عن أبنائهم؛ ليعرفوا الجيل الآتي تسابيح الرب؛ وقوته؛ وعجائبه التي صنعها؛ أقام شهادته في يعقوب؛ [ ص: 261 ] وجعل ناموسا في إسرائيل؛ كالذي أوصى آباءنا ليعلموا أبناءهم؛ لكيما يخبر الجيل الآخر البنين الذين يولدون؛ ويقومون؛ ويعلمون أيضا بنيهم أن يجعلوا توكلهم على الله؛ ولا ينسوا أعمال الرب؛ ويتبعوا وصاياه؛ لئلا يكونوا كآبائهم الجيل المنحرف؛ المخالف؛ الخلف؛ الذي لم يثق قلبه؛ ولم يؤمن بالله المفرج عنه؛ بنو إفرام الذين أوتروا؛ ورفعوا عن قسيهم؛ وانهزموا في يوم القتال؛ لأنهم لم يحفظوا عهد الرب؛ ولم يشاؤوا أن يسيروا في سبله؛ ونسوا حسن أعماله؛ وصنائعه التي أظهرها قدام آبائهم؛ العجائب التي صنعها بأرض مصر في مزارع صاعان؛ فلق البحر؛ وأجازهم؛ وأقام المياه كالزقاق؛ هداهم بالنهار في الغمام؛ وفي الليل أجمع بمصابيح النار؛ فلق صخرة في البرية وسقاهم منها؛ كاللجج العظيمة؛ أخرج الماء من الحجر؛ فجرت المياه كجري الأنهار؛ وعاد الشعب أيضا في الخطيئة؛ وأسخطوا العلي؛ حيث لم يكن ماء؛ جربوا الله في قلوبهم بمسألة الطعام لنفوسهم؛ وقذفوا على الله؛ وقالوا: هل يقدر أن يصنع لنا مائدة في البرية؛ لأنه ضرب الصخرة فجرت المياه؛ وفاضت الأودية؛ هل يستطيع أن يعطينا خبزا؛ أو يعد مائدة لشعبه؛ سمع الرب؛ فغضب؛ واشتعلت النار في يعقوب؛ وصعد الرجز على إسرائيل؛ لأنهم لم يؤمنوا بالله؛ ولا رجوا خلاصه؛ فأمر السحاب من فوق؛ [ ص: 262 ] وانفتحت أبواب السماء؛ وأنزل لهم المن ليأكلوا؛ أعطاهم خبز السماء؛ أكله الإنسان؛ أرسل إليهم صيدا ليشبعوا؛ أهاج ريح التيمن من السماء؛ وأتى بقوة العاصف؛ وأنزل اللحم مثل التراب؛ وطير السماء ذات الأجنحة؛ مثل رمل البحار؛ يسقطن في محالهم حول خيامهم؛ فأكلوا وشبعوا جدا؛ أعطاهم شهوتهم؛ ولم يحرمهم إرادتهم؛ فبينما الطعام في أفواههم إذ غضب الله نزل عليهم؛ فقتل في كثرتهم؛ وصرع في مختاري إسرائيل؛ ومع هذا كله أخطؤوا إليه أيضا؛ ولم يؤمنوا بعجائبه؛ فنيت بالباطل أيامهم؛ وتصرمت عاجلا سنوهم؛ فحين قتلهم رغبوا إلى الله؛ وعادوا؛ وابتكروا إليه؛ وذكروا أن الله معينهم؛ وأن الله العلي مخلصهم؛ أحبوه بأفواههم؛ وكذبوه بألسنتهم؛ ولم تخلص له قلوبهم؛ ولم يؤمنوا بعهده؛ وهو رحيم رؤوف؛ يغفر ذنوبهم؛ ولا يهلكهم؛ ويرد كثرة سخطه عنهم؛ ولا يبعث كل رجزه؛ وذكر أنهم لحم وروح؛ يذهب ولا يعود؛ مرارا كثيرة أسخطوه في البرية؛ وأغضبوه في أرض ظامئة؛ وعادوا وجربوا الله؛ وأسخطوا قدوس إسرائيل؛ ولم يذكروا يده في يوم نجاهم من المضطهدين)؛ انتهى.
هذا بعض ما في الزبور؛ وأما الإنجيل فطافح بذلك؛ منه ما في [ ص: 263 ] إنجيل متى ؛ قال: (وانتقل يسوع من هناك؛ وجاء إلى عبر الجليل؛ وصعد إلى الجبل؛ وجلس هناك؛ وجاء إليه جمع كبير؛ معهم خرس؛ وعمي؛ وعرج؛ وعسم؛ وآخرون كثيرون؛ فخروا عند رجليه؛ فأبرأهم؛ وتعجب الجمع لأنهم نظروا الخرس يتكلمون؛ والصم يسمعون؛ والعرج يمشون؛ والعمي يبصرون؛ ومجدوا إله إسرائيل؛ وإن يسوع دعا تلاميذه وقال لهم: إني أتحنن على هذا الجمع؛ لأن لهم معي ثلاثة أيام ههنا؛ وليس عندهم ما يأكلون؛ ولا أريد أطلقهم صياما؛ لئلا يضيعوا في الطريق؛ قال مرقس : لأن منهم من جاء من بعيد؛ انتهى؛ قال له التلاميذ: من أين نجد من خبز القمح في البرية ما يشبع هذا الجمع؟ فقال لهم يسوع : كم عندكم من الخبز؟ فقالوا: سبعة أرغفة؛ ويسير من السمك؛ فأمر الجمع أن يجلس على الأرض؛ وأخذ السبع خبزات؛ والسمك؛ وبارك؛ وكسر؛ وأعطى تلاميذه؛ وناول التلاميذ الجمع؛ فأكل جميعهم وشبعوا؛ ورفعوا فضلات الكسر سبع قفاف مملوءة؛ وكان الذين أكلوا نحو أربعة آلاف رجل؛ سوى النساء؛ والصبيان؛ وأطلق الجمع؛ وصعد السفينة؛ وجاء إلى تخوم مجدل - وقال مرقس : إلى نواحي مابونا - وجاء الفريسيون؛ [ ص: 264 ] والزنادقة؛ يجربونه؛ ويسألونه أن يريهم آية من السماء؛ فأجابهم يسوع قائلا: إذا كان المساء قلتم: إن السماء صاحية – لاحمرارها -؛ وبالغداة تقولون: اليوم شتاء - لاحمرار جو السماء العبوس -؛ أيها المراؤون؛ تعلمون آية هذا الزمان؛ الجيل الشرير الفاسق يطلب آية؛ ولا يعطى؛ إلا آية يونان النبي؛ وتركهم ومضى؛ ثم جاء التلاميذ إلى العبر؛ ونسوا أن يأخذوا خبزا - قال مرقس : ولم يكن في السفينة إلا رغيف واحد - وإن يسوع قال لهم: انظروا وتحرزوا من خمير الفريسيين؛ والزنادقة - وقال مرقس : وخمير هيرودس - ففكروا قائلين: إنا لم نجد خبزا؛ فعلم يسوع فقال لهم: لماذا تفكرون في نفوسكم يا قليلي الأمانة أنكم ليس معكم خبز؟ أما تفهمون؛ ولا تذكرون الخمس خبزات لخمسة آلاف؛ وكم سلا أخذتم؛ والسبع خبزات لأربعة آلاف؛ وكم قفة أخذتم؟ لماذا لا تفهمون؟ لأني لم أقل لكم من أجل الخبز؛ حينئذ فهموا أنه لم يقل لهم أن يتحرزوا من خمير الخبز؛ لكن من تعليم الزنادقة؛ والفريسيين؛ وقال لوقا : تحرزوا لأنفسكم من خمير الفريسيين؛ الذي هو الرياء؛ لأنه ليس خفي إلا سيظهر؛ ولا مكتوم إلا سيعلم؛ الذي تقولونه في الظلام سيسمع في النور؛ والذي وعيتموه في الآذان سوف ينادى به على السطوح؛ [ ص: 265 ] أقول لكم: يا أحبائي؛ لا تخافوا ممن يقتل الجسد؛ وبعد ذلك ليس له أن يفعل أكثر؛ خافوا ممن إذا قتل له سلطان أن يلقى في نار جهنم).
وسيأتي بقية الإشارة إلى لعنهم في سورة "الصف"؛ إن شاء الله (تعالى) ؛ والعسم: جمع "أعسم"؛ بمهملتين؛ وهو من في يده؛ أو قدمه؛ اعوجاج؛ أو يده يابسة.