ولما مدح - سبحانه - الرهبان؛ وكان ذلك داعيا إلى الترهب؛ وكانت الرهبانية حسنة بالذات؛ قبيحة بالعرض؛ شريفة في المبدإ؛ دنية في المآل؛ فإنها مبنية على الشدة؛ والاجتهاد في الطاعات؛ والتورع عن أكثر المباحات؛ مطبوع على النقائص؛ فيدعوه طبعه؛ ويساعده ضعفه إلى عدم الوفاء بما عاقد عليه؛ ويسرع بما له من صفة العجلة إليه؛ فيقع في الخيانة؛ كما قال (تعالى): والإنسان مبني على الضعف؛ فما رعوها حق رعايتها ؛ عقب ذلك بالنهي عنها في هذا الدين؛ والإخبار عنه بأنه بناه على التوسط؛ رحمة منه لأهله؛ ولطفا بهم؛ تشريفا لنبيهم - صلى الله عليه وسلم -؛ ونهاهم عن الإفراط فيه؛ والتفريط؛ فقال (تعالى): يا أيها الذين آمنوا ؛ أي: وجد منهم الإقرار بذلك؛ لا تحرموا ؛ أي: تمنعوا أنفسكم بنذر؛ أو يمين؛ أو غيرهما؛ تصديقا لما أقررتم به؛ ورغبهم في امتثال أمره بأن جعله موافقا لطباعهم؛ ملائما لشهواتهم؛ فقال: طيبات ما ؛ أي: المطيبات؛ وهي اللذائذ؛ التي أحل الله ؛ وذكر هذا الاسم الأعظم مرغب في ذلك؛ فإن الإقبال على المنحة يكون على مقدار المعطي؛ وأكد ذلك بقوله: لكم ؛ أي: وأما هو - سبحانه - فهو منزه عن الأغراض؛ لا ضر يلحقه؛ ولا نفع؛ لأن له الغنى المطلق.
ولما أطلق لهم ذلك؛ حثهم على الاقتصاد؛ وحذرهم من مجاوزة الحد؛ [ ص: 275 ] إفراطا؛ وتفريطا؛ فقال: ولا تعتدوا ؛ فدل بصيغة الافتعال على أن الفطرة الأولى مبنية على العدل؛ فعدولها عنه لا يكون إلا بتكلف؛ ثم علل ذلك بقوله - مؤكدا لاستبعاد أن ينهى عن الإمعان في العبادة -: إن الله ؛ أي: وهو الملك الأعظم؛ لا يحب المعتدين ؛ أي: لا يفعل فعل المحب؛ من الإكرام؛ للمفرطين في الورع؛ بحيث يحرمون ما أحللت؛ ولا للمفرطين فيه؛ الذين يحللون ما حرمت؛ أي: يفعلون فعل المحرم؛ من المنع؛ وفعل المحلل؛ من التناول؛ وما ذكر من سبب نزول الآية واضح في ذلك; روى في أسباب النزول؛ بسنده عن الواحدي - رضي اللـه عنهما - ابن عباس لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ؛ ونزلت: وكلوا مما رزقكم الله وأخرجه أن رجلا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله؛ إني إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت إلى النساء؛ وإني حرمت علي اللحم؛ فنزلت: في التفسير؛ من جامعه؛ وقال: حسن؛ غريب؛ ورواه الترمذي خالد الحذاء؛ عن مرسلا؛ وقال عكرمة؛ ؛ وتبعه عليه الواحدي : قال المفسرون: البغوي جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الناس؛ ووصف القيامة؛ ولم يزدهم على التخويف؛ فرق الناس وبكوا؛ فاجتمع عشرة من الصحابة - رضي اللـه عنهم - في بيت وهم عثمان بن مظعون [ ص: 276 ] الجمحي؛ أبو بكر الصديق؛ وعلي بن أبي طالب؛ وعبد الله بن مسعود؛ وعبد الله بن عمرو؛ وأبو ذر الغفاري؛ وسالم؛ مولى أبي حذيفة؛ والمقداد بن الأسود؛ وسلمان الفارسي؛ ومعقل بن مقرن؛ واتفقوا على أن يصوموا النهار؛ ويقوموا الليل؛ ولا يناموا على الفرش؛ ولا يأكلوا اللحم؛ ولا الودك؛ ولا يقربوا النساء؛ والطيب؛ ويلبسوا المسوح؛ ويرفضوا الدنيا؛ ويسيحوا في الأرض؛ ويترهبوا؛ ويجبوا المذاكير; فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم: "ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟"؛ قالوا: بلى يا رسول الله؛ وما أردنا إلا الخير؛ فقال: "إني لم أومر بذلك؛ إن لأنفسكم عليكم حقا؛ فصوموا؛ وأفطروا؛ وقوموا؛ وناموا؛ فإني أقوم؛ وأنام؛ وأصوم؛ وأفطر؛ وآكل اللحم؛ والدسم؛ ومن رغب عن سنتي فليس مني"; ثم جمع الناس؛ فخطبهم فقال: "ما بال أقوام حرموا النساء؛ والطعام؛ والطيب؛ والنوم؛ وشهوات الدنيا؟! أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا؛ فإنه ليس في ديني ترك اللحم؛ والنساء؛ ولا اتخاذ الصوامع؛ وإن سياحة أمتي الصوم؛ ورهبانيتهم الجهاد؛ واعبدوا الله [ ص: 277 ] ولا تشركوا به شيئا؛ وحجوا؛ واعتمروا؛ وأقيموا الصلاة؛ وآتوا الزكاة؛ وصوموا رمضان؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد؛ شددوا؛ فشدد الله عليهم؛ فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع"؛ فأنزل الله (تعالى) هذه الآية؛ فقالوا: يا رسول الله؛ فكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ وكانوا حلفوا على ما عليه اتفقوا؛ فأنزل الله - عز وجل - قوله (تعالى): لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولا تعارض بين الخبرين؛ لإمكان الجمع بأن يكون الرجل لما سمع تذكير النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل؛ ولو لم يجمع صح أن يكون كل منهما سببا؛ فالشيء الواحد قد يكون له أسباب جمة؛ بعضها أقرب من بعض؛ فمن الأحاديث الواردة في ذلك ما روى بسنده؛ من طريق البغوي ابن المبارك؛ في كتاب الزهد؛ عن سعد بن مسعود؛ أن - رضي اللـه عنه - أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ائذن لنا في الاختصاء؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا من خصى؛ ولا اختصى؛ إن خصاء أمتي الصيام"؛ فقال: يا رسول الله؛ ائذن لنا في السياحة؛ فقال: "إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله"؛ فقال: يا رسول الله؛ ائذن لنا في الترهب؛ فقال: "إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد انتظارا لصلاة"؛ عثمان بن مظعون [ ص: 278 ] وللشيخين؛ والترمذي؛ والنسائي؛ عن والدارمي؛ - رضي اللـه عنه - أيضا قال: سعد بن أبي وقاص أن يتبتل؛ فنهاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولو أذن له - وفي رواية: ولو أجاز له - التبتل اختصينا؛ عثمان بن مظعون أراد وللدارمي؛ - رضي اللـه عنه - أيضا قال: لما كان من أمر سعد بن أبي وقاص - رضي اللـه عنه - الذي كان؛ من ترك النساء؛ بعث إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا عثمان بن مظعون إني لم أومر بالرهبانية؛ أرغبت عن سنتي؟"؛ قال: لا يا رسول الله؛ قال: "إن من سنتي أن أصلي؛ وأنام؛ وأصوم؛ وأطعم؛ وأنكح؛ وأطلق؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني؛ يا عثمان؛ إن لأهلك عليك حقا؛ ولعينك عليك حقا"؛ قال عثمان؛ فوالله لقد كان أجمع رجال من المؤمنين على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن هو أقر سعد: على ما هو عليه أن نختصي فنتبتل؛ عثمان وقال شيخنا عن ابن حجر؛ في تخريج أحاديث الكشاف: وروى من طريق الطبراني عن ابن جريج؛ قال: أراد رجال؛ منهم مجاهد عثمان بن مظعون؛ أن يتبتلوا؛ ويخصوا أنفسهم؛ ويلبسوا المسوح؛ ومن طريق وعبد الله بن عمرو؛ عن ابن جريج عكرمة: أن عثمان بن مظعون؛ وعلي [ ص: 279 ] ابن أبي طالب؛ وابن مسعود؛ والمقداد بن الأسود؛ في جماعة - رضي اللـه عنهم -؛ تبتلوا؛ فجلسوا في البيوت؛ واعتزلوا النساء؛ ولبسوا المسوح؛ وحرموا طيبات الطعام؛ واللباس؛ وهموا بالاختصاء؛ وأجمعوا لقيام الليل؛ وصيام النهار؛ فنزلت: وسالما؛ مولى أبي حذيفة يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ؛ الآية؛ فبعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن لأنفسكم عليكم حقا؛ فصوموا وأفطروا؛ وصلوا وناموا؛ فليس منا من ترك سنتنا"؛ عن وللترمذي - رضي اللـه عنه - سمرة وقرأ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التبتل؛ قتادة: ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية عن وللنسائي - رضي الله عنها - نحوه؛ وأشار إليه عائشة ؛ الترمذي في الأوسط؛ عن وللطبراني - رضي اللـه عنه - قال: أنس بن مالك ومنها ما روى الشيخان؛ عن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالباءة؛ وينهى عن التبتل نهيا شديدا؛ يقول: "تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة"؛ عبد الله [ ص: 280 ] - رضي اللـه عنه - أنه قال: عبد الله: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم الآية. "كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس لنا شيء - وفي رواية: نساء؛ وفي رواية: كنا ونحن شباب - فقلنا: يا رسول الله؛ ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك؛ ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب؛ ثم قرأ علينا
ومنها ما روى ؛ وغيره؛ البخاري - رضي اللـه عنه - قال: قلت: يا رسول الله؛ إني رجل شاب؛ وإني أخاف على نفسي العنت؛ ولا أجد ما أتزوج به النساء - قال أبي هريرة : أفاختصي؟ - فسكت عني؛ ثم قلت مثل ذلك؛ فسكت عني؛ ثم قلت مثل ذلك؛ فسكت عني؛ ثم قلت مثل ذلك؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا النسائي جف القلم بما أنت لاق؛ فاختص على ذلك؛ أو ذر"؛ وقال أبا هريرة؛ : "أو دع"؛ النسائي ومنها ما روى الشيخان؛ وغيرهما؛ عن عن - رضي اللـه عنه - قال: أنس بن مالك مسلم أن نفرا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سألوا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عمله [ ص: 281 ] في السر - فلما أخبروا كأنهم تقالوها؛ فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا؛ وقال آخر: أنا أصوم الدهر؛ ولا أفطر؛ وقال آخر: وأنا أعتزل النساء؛ فلا أتزوج أبدا; وفي رواية: وقال بعضهم لا آكل اللحم؛ وقال بعضهم: لا أنام على فراش; فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله؛ وأثنى عليه؛ وقال: "ما بال أقوام كذا وكذا؟"؛ وفي رواية: فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم؛ فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله؛ وأتقاكم له؛ لكني أصوم وأفطر؛ وأصلي وأرقد؛ وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني"؛ والنسائي والمبهمون في الحديث - قال شيخنا في مقدمة شرحه "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهن - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي رواية - هم للبخاري ابن مسعود وأبو هريرة؛ وسيأتي مفرقا ما يشير إلى ذلك؛ يعني ما قدمته أنا؛ قال: وقيل: هم وعثمان بن مظعون؛ سعد بن أبي وقاص؛ وعثمان بن مظعون؛ وفي مصنف وعلي بن أبي طالب؛ من طريق عبد الرزاق؛ أن منهم سعيد بن المسيب؛ عليا؛ - رضي الله عنهم -؛ وقال شيخنا في تخريج أحاديث الكشاف: إن هذا أصل ما رواه وعبد الله بن عمرو بن العاص عن المفسرين؛ وللشيخين؛ الواحدي عن والترمذي؛ - رضي اللـه عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أبي هريرة وفي رواية: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه؛ وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم؛ فإنما [ ص: 282 ] أهلك الذين من قبلكم كثرة سؤالهم؛ واختلافهم على أنبيائهم"؛ "ذروني ما تركتكم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم؛ واختلافهم على أنبيائهم"؛ عن ولأبي داود - رضي اللـه عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أنس وللإمام "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم"؛ في المسند؛ عن أحمد - رضي اللـه عنه - والحاكم في علوم الحديث؛ في فن الغريب - وهذا لفظه - عن أنس - رضي اللـه عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: جابر بن عبد الله "إن هذا الدين متين؛ فأوغل فيه برفق؛ ولا تبغض عبادة الله إليك؛ فإن المنبت لا أرضا قطع؛ ولا ظهرا أبقى"؛ المتين: الصلب الشديد؛ والإيغال: المبالغة؛ والمنبت - بنون وموحدة وفوقانية مشددة هو الذي انقطع ظهره؛ وروى عن البخاري - رضي اللـه عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أبي هريرة وفي بعض الروايات: "إن الدين يسر؛ ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه؛ فسددوا؛ وقاربوا؛ وأبشروا"; "والقصد القصد تبلغوا"؛ ولمسلم؛ - وهذا لفظه - وابن ماجة حنظلة الكاتب التميمي الأسيدي - رضي اللـه عنه - قال: كنا [ ص: 283 ] عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا الجنة والنار حتى كانا رأي العين؛ فقمت إلى أهلي وولدي؛ فضحكت ولعبت؛ قال: فذكرت الذي كنا فيه؛ فخرجت فلقيت - رضي اللـه عنه - فقلت: نافقت نافقت؛ فقال أبا بكر إنا لنفعله؛ فذهب أبو بكر: فذكره للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا حنظلة لو كنتم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم؛ أو على طرقكم؛ يا حنظلة؛ ساعة؛ وساعة"؛ حنظلة! ولفظ عن من طرق جمعت متفرقها مسلم - وكان من كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لقيني حنظلة - رضي اللـه عنه - فقال: كيف أنت يا أبو بكر قلت: نافق حنظلة؟ قال: سبحان الله؛ ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالنار والجنة؛ كانا رأي عين؛ فإذا خرجنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عافسنا الأزواج؛ والأولاد؛ والضيعات؛ نسينا كثيرا؛ قال حنظلة؛ - رضي الله عنه -: فوالله إنا لنلقى مثل هذا؛ فانطلقت أنا أبو بكر حتى دخلنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ قلت: نافق وأبو بكر؛ يا رسول الله؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وما ذاك؟"؛ قلت: يا رسول الله؛ نكون عندك؛ تذكرنا بالنار؛ والجنة؛ كانا رأي [ ص: 284 ] عين؛ فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج؛ والأولاد؛ والضيعات؛ نسينا كثيرا؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده؛ أن لو تدومون على ما تكونون عندي؛ وفي الذكر؛ لصافحتكم الملائكة على فرشكم؛ وفي طرقكم؛ ولكن يا حنظلة ساعة؛ وساعة؛ وساعة - ثلاث مرات"؛ حنظلة وفي رواية: قال: عن فذكرت ذلك له؛ فقال: وأنا قد فعلت مثل ما تذكر؛ فلقينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فقلت: يا رسول الله؛ نافق حنظلة؛ فقال: "مه؟"؛ فحدثته بالحديث؛ فقال أبا بكر؛ وأنا قد فعلت مثلما فعل؛ فقال: "يا أبو بكر: ساعة؛ وساعة؛ فلو كانت تكون قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة حتى تسلم عليكم في الطرق". حنظلة؛ كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوعظنا فذكرنا النار - وفي رواية: الجنة والنار - ثم جئت إلى البيت فضاحكت الصبيان؛ ولاعبت المرأة؛ فخرجت فلقيت
ومن هنا تبين لك مناسبة أول "المجادلة"؛ لآخر "الحديد"؛ التي كاع في معرفتها الأفاضل؛ وكع عن تطلبها – لغموضها - الأكابر؛ الأماثل؛ وسيأتي إن شاء الله (تعالى) بيان ذلك؛ وإيضاح ما فيه من لطيف المسالك؛ ومن هذه الآية وقع الالتفات؛ إلى قوله (تعالى): أحلت لكم بهيمة الأنعام ؛ وقوله (تعالى): قل أحل لكم الطيبات ؛ وما أحسن تصديرها [ ص: 285 ] بـ "يا أيها الذين آمنوا"! كما صدر أول السورة به؛ وقد مضى بيان جميع ما مضى في الوفاء بالعقود؛ فكان كأنه (تعالى) قال: أوفوا بالعقود؛ فلا تتهاونوا بها فتنقضوها؛ ولا تبالغوا فيها فتكونوا معتدين؛ فتضعفوا؛ فإنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه؛ بل سددوا؛ وقاربوا؛ والقصد القصد تبلغوا؛ وقال ابن الزبير؛ بعد قوله: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم ؛ ثم فصل للمؤمنين أفعال الفريقين - أي: اليهود والنصارى - ليتبين لهم فيم نقضوا؛ ثم بين تفاوتهم في البعد عن الاستجابة؛ فقال (تعالى): لتجدن أشد الناس عداوة ؛ ثم نصح عباده؛ وبين لهم أبوابا؛ منها دخول الامتحان؛ وهي سبب في كل الابتلاء؛ فقال: لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ؛ فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم شارعين لأنفسكم؛ وظالمين؛ انتهى. و ما أحل ؛ شامل لكل ما كانوا أرادوا أن يتورعوا عنه من المآكل؛ والملابس؛ والمناكح؛ والنوم؛ وغير ذلك.