[ ص: 1 ] بسم الله الرحمن الرحيم
ثم شرع سبحانه يقيم الدليل على أنهم ممن أحاطت به خطيئته فقال : وإذ أي : اذكروا ما تعلمون في كتابكم من حال من كسب سيئة محيطة ، واذكروا إذ أخذنا بما لنا من تلك العظمة التي أشهدناكم كثيرا منها ميثاقكم ، ولكنه أظهر لطول الفصل بذكر وصف يعمهم وغيرهم . فقال : ميثاق بني إسرائيل ، ويجوز أن يكون معطوفا على : " نعمتي " في قوله تعالى : يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم لأن الكل في مخاطبتهم وبيان أمورهم . [ ص: 2 ] ولما كان الدين إنما هو الأدب مع الخالق والخلق ذكر المعاهد عليه من ذلك مرتبا له على الأحق فالأحق ، فقال ذاكرا له في صيغة الخبر مريدا به النهي والأمر وهو أبلغ من حيث إنه كأنه وقع امتثاله ومضى ودل على إرادة ذلك بعطف " وقولوا " عليه ، لا تعبدون إلا الله المنعم الأول الذي له الأمر كله لتكونوا محسنين بذلك إحسانا هو الإحسان كله ، "و" أحسنوا أو تحسنون ، "بالوالدين" ولو كانا كافرين . قال : تثنية والد من الولادة لاستبقاء ما يتوقع ذهابه بظهور صورة منه تخلف صورة نوعه انتهى . "إحسانا " : عظيما لا يبلغ كنهه ، لكونهما في الرتبة الثانية لجعلهما سبحانه السبب في نعمة الإيجاد الأول والمباشرين للتربية . الحرالي
وغير السياق فلم يقل : ولا تحسنون إلا إلى الوالدين ، إفهاما لأن الإحسان إليهما يشركهما فيه من بعدهما ، لو جبر فوات هذا الحصر بتقديمهما إيذانا بالاهتمام ، وذي القربى وهم المتوسلون بالوالدين لما لهم من أكيد الوصلة [ ص: 3 ] واليتامى لضعفهم ، واليتم قال : فقد الأب حين الحاجة ، ولذلك أثبته مثبت في الذكر إلى البلوغ ، وفي البنت إلى الثيوبة لبقاء حاجتها بعد البلوغ ، والقربى فعلى من القرابة وهو قرب في النسب الظاهر أو الباطن انتهى . الحرالي والمساكين لكسرهم .
ولما لم يكن وسع الناس عامة بالإحسان بالفعل ممكنا أمر بجعل [ ص: 4 ] ذلك بالقول فقال عطفا على الخبر الذي معناه الإنشاء : وقولوا للناس عامة ، حسنا أي : حسنا بالتحريك ، وهو لغة فيه كالبخل والبخل ، وذلك بأن يأمروهم بما أمر الله به وينهوهم عما نهى عنه . ولما أمرهم بما إن امتثلوه اجتمعت كلمتهم ذكر أعظم جامع على الله من الأعمال فقال : وأقيموا الصلاة ثم ذكر ما به تمام الجمع ودوامه ، فقال : وآتوا الزكاة ولما كان الإعراض عن هذه المحاسن في غاية البعد فكيف إذا كانت بعهد فكيف إذا كان من الله أشار إلى ذلك بأداة التراخي ، فقال : ثم توليتم أي : عن ذلك أو عن كثير منه ، وأشار بصيغة التفعل إلى أن الأمور الدينية لحسنها لا يعرض عنها إلا بعلاج بين الفطرة الأولى والأمارة ، إلا قليلا منكم وأنتم أي : والحال أنكم [ ص: 5 ] معرضون عادتكم ذلك ، لم يكن ذلك منكم عن غير علم ، والإعراض صرف الشيء إلى العرض التي هي الناحية .
قال السمين : وروي عن وغيره : إلا قليل - بالرفع ، وفيه أقوال ، أصحها رفعه على الصفة بتأويل إلا وما بعدها بمعنى غير . انتهى . ويأتي إن شاء الله تعالى بسط هذا الإعراب عند قوله : أبي عمرو فشربوا منه إلا قليلا منهم ذكر ما يشهد لذلك من التوراة ، قال في السفر الثاني منها لما ذكر أمر المناجاة وحضورهم عند الجبل ، وقال الله جميع هذه الآيات كلها : أنا الرب إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق ، لا تكون لك آلهة غيري ، لا تعملن شيئا من الأصنام والتماثيل التي مما في السماء فوق وفي الأرض من تحت ومما في الماء أسفل الأرض ، لا تسجدن لها ولا تعبدنها ، لأني أنا الرب ، إلهك إله غيور ، أجازي الأبناء بذنوب [ ص: 6 ] الآباء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة من أعدائي ، وأثبت النعمة إلى ألف حقب لأحبائي وحافظي وصاياي ، لا تقسم بالرب إلهك كذبا ، لأن الرب لا يزكي من حلف باسمه كذبا ، أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيكها الرب إلهك ، لا تقتل ، لا تزن ، لا تسرق ، لا تشهد على صاحبك شهادة زور ، لا تتمن بنت صاحبك ، ولا تشتهين امرأة صاحبك ولا كل شيء لصاحبك ، وكان جميع الشعب يسمعون الأصوات ويرون المصابيح . وقال في موضع آخر من السفر الثالث : لا تسرقوا ، ولا تغدروا ، ولا تحلفوا باسمي كذبا ، ولا تنجسوا اسم الرب إلهكم ، أنا الرب وليس غيري ، لا تظلمن صاحبك ، ولا تشتمن الأخرس ، ولا تضع عثرة بين يدي الضرير ، اتق الله ربك ، لا تحيفوا في القضاء ، ولا تأثموا ، ولا تحابين المسكين ولا تحاب الكبير أيضا بل اقض بالبر والعدل ، لا تبغض أخاك في قلبك بل بكت صاحبك [ ص: 7 ] ووبخه بالحق لكيلا يلزمك خطيئة في سببه ، ولا تحقدن على أحد بل أحبب صاحبك كما تحب نفسك ، ولا تتطيروا بسنح الطير ، ولا يكونن فيكم عراف ، ولا تطولن شعر رؤوسكم ، ولا تحلقوا عنافق لحاكم ، ولا تخدشوا وجوهكم على الميت ، ولا تكتبوا على لحومكم بالإبر ، أنا الله ربكم ، لا تتبعوا العرافين والقافة ولا تنطلقوا إليهم ولا تسألوهم عن شيء لئلا تتنجسوا بهم ، أكرم الشيخ وقم إليه إذا رأيته ، وأكرم من هو أكبر منك ، واتق الله ربك ، أنا الله ربكم ، وإذا سكن بينكم الذي يقبل إلي فلا تظلموه بل أنزلوه منزلة أحدكم وصيروه منكم ، الذين يقبلون إلي ويسكنون معكم أحبوهم كما تحبون أنفسكم لأنكم كنتم سكانا بأرض مصر ، أنا الله ربكم ، لا تأثموا في القضاء ولا تأثموا في الأوزان والمكاييل بل اتخذوا ميزان الحق واتخذوا مكاييل الحق ، أنا الله ربكم الذي أخرجكم من أرض مصر احفظوا جميع وصاياي : وأحكامي بها ، أنا الرب وليس غيري .
وقال في الثاني : ومن تبع العرافين والقافة وضل بهم أنزل [ ص: 8 ] به غضبي الشديد وأهلكه من شعبي ، وأي : رجل شتم والديه يقتل قتلا ودمه في عنقه ; ثم قال بعده : وأي : رجل أو امرأة صار عرافا أو منجما يقتلان قتلا ، ويكون قتلهما الرجم بالحجارة ، ودمهما في أعناقهما ; وقال قبل ذلك : وكل من ضرب رجلا فمات فليقتل قتلا ، ومن ضرب أباه وأمه فليقتل قتلا ، ومن سرق إنسانا فوجد معه يريد بيعه فليقتل قتلا ، ومن شتم أباه وأمه فليقتل قتلا ، ثم قال : ولا يؤذن الساكن بينكم ولا تعقوهم تحوجوهم ، لأنكم كنتم سكانا بأرض مصر ، ولا تؤذوا الأرامل والأيتام ، فإن آذيتموهم فصلوا بين يدي أسمع صلاتهم وأستجيب لهم فيشتد غضبي وأقتلكم في الحرب وتكون نساؤكم أرامل وبنوكم يصيرون يتامى ، وإن أسلفت رزقك للمسكين الذي معك من شعبي فلا تكونن له كالغريم ، ولا تأخذن منه ربا ; ثم قال : ولا تقبلن الرشوة ، فإن الرشوة تعمي أبصار الحكماء في القضاء وترد فلج الصالحين .