والأصل في "مثابة" مثوبة، فأعل بالنقل والقلب، وهل هو مصدر أو اسم مكان قولان؟ وهل الهاء فيه للمبالغة كعلامة ونسابة لكثرة من يثوب إليه أي يرجع أو لتأنيث المصدر كمقامة أو لتأنيث البقعة؟ ثلاثة أقوال، وقد جاء حذف هذه الهاء قال ورقة بن نوفل:
712 - مثاب لأفناء القبائل كلها تخب إليها اليعملات الذوامل
وقال:
713 - جعل البيت مثابا لهم ليس منه الدهر يقضون الوطر
وهل معناه من ثاب يثوب أي: رجع، أو من الثواب الذي هو الجزاء؟ قولان أظهرهما أولهما. وقرأ الأعمش "مثابات" جمعا، ووجهه أنه مثابة لكل واحد من الناس. وطلحة:
[ ص: 105 ] قوله: "للناس" فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بمحذوف لأنه صفة لـ "مثابة" ومحله النصب. والثاني: أنه متعلق بجعل أي: لأجل الناس يعني مناسكهم.
قوله: "وأمنا" فيه وجهان، أحدهما: أنه عطف على "مثابة" وفيه التأويلات المشهورة: إما المبالغة في جعله نفس المصدر، وإما على حذف مضاف أي: ذا أمن، وإما على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل أي: آمنا، على سبيل المجاز كقوله: "حرما آمنا". والثاني: أنه معمول لفعل محذوف تقديره: وإذ جعلنا البيت مثابة فاجعلوه آمنا لا يعتدي فيه أحد على أحد. والمعنى: أن الله جعل البيت محترما بحكمه، وربما يؤيد هذا بقراءة: "اتخذوا" على الأمر فعلى هذا يكون "وأمنا" وما عمل فيه من باب عطف الجمل عطفت جملة أمرية على خبرية، وعلى الأول يكون من عطف المفردات.
قوله: "واتخذوا" قرأ نافع "واتخذوا" فعلا ماضيا على لفظ الخبر، والباقون على لفظ الأمر. فأما قراءة الخبر ففيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنه معطوف على "جعلنا" المخفوض بـ "إذ" تقديرا فيكون الكلام جملة واحدة. الثاني: أنه معطوف على مجموع قوله: وابن عامر: "وإذ جعلنا" فيحتاج إلى تقدير "إذ" أي: وإذ اتخذوا، ويكون الكلام جملتين. الثالث: ذكره أبو البقاء أن يكون معطوفا على محذوف تقديره: فثابوا واتخذوا.
وأما قراءة الأمر ففيها أربعة أوجه، أحدها: أنها عطف على "اذكروا" إذا قيل بأن الخطاب هنا لبني إسرائيل، أي: اذكروا نعمتي واتخذوا. والثاني: [ ص: 106 ] أنها عطف على الأمر الذي تضمنه قوله: "مثابة" كأنه قال: ثوبوا واتخذوا، ذكر هذين الوجهين المهدوي.
الثالث: أنه معمول لقول محذوف أي: وقلنا اتخذوا إن قيل بأن الخطاب لإبراهيم وذريته أو لمحمد عليه السلام وأمته. الرابع: أن يكون مستأنفا ذكره أبو البقاء.
قوله: "من مقام" في "من" ثلاثة أوجه: أحدها: أنها تبعيضية وهذا هو الظاهر. الثاني: أنها بمعنى في. الثالث: أنها زائدة على قول وليسا بشيء. والمقام هنا مكان القيام، وهو يصلح للزمان والمصدر أيضا. وأصله: "مقوم" فأعل بنقل حركة الواو إلى الساكن قبلها وقلبها ألفا، ويعبر به عن الجماعة مجازا كما يعبر عنهم بالمجلس قال الأخفش. زهير:
714 - وفيهم مقامات حسان وجوههم وأندية ينتابها القول والفعل
قوله: "مصلى" مفعول "اتخذوا"، وهو هنا اسم مكان أيضا، وجاء في التفسير بمعنى قبلة. وقيل: هو مصدر: فلا بد من حذف مضاف أي: مكان صلاة، وألفه منقلبة عن واو، والأصل: "مصلو" لأن الصلاة من ذوات الواو كما تقدم أول الكتاب.
قوله: "وإسماعيل" إسماعيل علم أعجمي وفيه لغتان: اللام والنون وعليه قول الشاعر:
715 - قال جواري الحي لما جينا هذا ورب البيت إسماعينا
[ ص: 107 ] ويجمع على: سماعلة وسماعيل وأساميع. ومن أغرب ما نقل في التسمية به أن إبراهيم عليه السلام لما دعا الله أن يرزقه ولدا كان يقول: اسمع إيل اسمع إيل، وإيل هو الله تعالى فسمى ولده بذلك.
قوله: "أن طهرا" يجوز في "أن" وجهان، أحدهما أنها تفسيرية لجملة قوله: "عهدنا" فإنه يتضمن معنى القول لأنه بمعنى أمرنا أو وصينا فهي بمنزلة "أي" التي للتفسير، وشرط "أن" التفسيرية أن تقع بعدما هو بمعنى القول لا حروفه. وقال "والمفسرة تقع بعد القول وما كان في معناه. وقد غلط في ذلك، وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب. والثاني: أن تكون مصدرية وخرجت عن نظائرها في جواز وصلها بالجملة الأمرية قالوا: "كتبت إليه بأن قم" وفيها بحث ليس هذا موضعه، والأصل: بأن طهرا، ثم حذفت الباء فيجيء فيها الخلاف المشهور من كونها في محل نصب أو خفض. و "بيتي" مفعول به أضيف إليه تعالى تشريفا. والطائف اسم فاعل من طاف يطوف، ويقال: أطاف رباعيا، قال: أبو البقاء:
716 - أطافت به جيلان عند قطاعه . . . . . . . . . .
وهذا من باب فعل وأفعل بمعنى. والعكوف لغة: اللزوم واللبث، قال:
717 -. . . . . . . . . . عليه الطير ترقبه عكوفا
[ ص: 108 ] وقال:
718 - عكف النبيط يلعبون الفنرجا ... ... ...
ويقال: عكف يعكف ويعكف، بالفتح في الماضي والضم والكسر في المضارع، وقد قرئ بهما. و "السجود" يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه جمع ساجد نحو: قاعد وقعود، وراقد ورقود، وهو مناسب لما قبله. والثاني: أنه مصدر نحو: الدخول والقعود، فعلى هذا لا بد من حذف مضاف أي: ذوي السجود ذكره أبو البقاء.
وعطف أحد الوصفين على الآخر في قوله: الطائفين والعاكفين لتباين ما بينهما، ولم يعطف إحدى الصفتين على الأخرى في قوله: والركع السجود، لأن المراد بهما شيء واحد وهو الصلاة إذ لو عطف لتوهم أن كل واحد منهما عبادة على حيالها، وجمع صفتين جمع سلامة وأخريين جمع تكسير لأجل المقابلة وهو نوع من الفصاحة، وأخر صيغة فعول على فعل لأنها فاصلة.