والثاني : أنه يعود على فرعون ، ويروى عن أيضا ، ورجح ابن عباس هذا ، وضعف الأول فقال : " ومما يضعف عود الضمير على موسى أن المعروف من أخبار بني إسرائيل أنهم كانوا قد فشت فيهم النبوات ، وكانوا قد نالهم ذل مفرط ، وكانوا يرجون كشفه بظهور مولود ، فلما جاءهم ابن عطية موسى أصفقوا عليه وتابعوه ، ولم يحفظ أن طائفة من بني إسرائيل كفرت بموسى ، فكيف تعطي هذه الآية أن الأقل منهم كان الذي آمن ؟ ، فالذين يترجح عوده على فرعون ، ويؤيده أيضا ما تقدم من محاورة موسى ورده عليهم وتوبيخهم .
[ ص: 255 ] قوله : على خوف حال ، أي : آمنوا كائنين على خوف ، والضمير في " وملئهم " فيه أوجه ، أحدها : أنه عائد على الذرية ، وهذا قول أبي الحسن واختيار ، أي : خوف من ملأ الذرية ، وهم أشراف بني إسرائيل . ابن جرير
الثاني : أنه يعود على قومه بوجهيه ، أي : سواء جعلنا الضمير في " قومه " لموسى أو لفرعون ، أي : وملأ قوم موسى أو ملأ قوم فرعون .
الثالث : أن يعود على فرعون ، واعترض على هذا بأنه كيف يعود ضمير جمع على مفرد ؟ وقد اعتذر عن ذلك بوجهين ، أحدهما : أن أبو البقاء فرعون لما كان عظيما عندهم عاد الضمير عليه جميعا ، كما يقول العظيم ، نحن نأمر ، وهذا فيه نظر ، لأنه لو ورد ذلك من كلامهم محكيا عنهم لاحتمل ذلك . والثاني : أن فرعون صار اسما لأتباعه ، كما أن ثمود اسم للقبيلة كلها " . وقال وجهين آخرين قريبين من هذين ، ولكنهما أخلص منهما ، قال : " إنما جمع الضمير في " ملئهم " لأنه إخبار عن جبار ، والجبار يخبر عنه بلفظ الجمع ، وقيل : لما ذكر فرعون علم أن معه غيره ، فرجع الضمير عليه وعلى من معه " . قلت : وقد تقدم نحو من هذا عند قوله : مكي الذين قال لهم الناس إن الناس ، والمراد بالقائل نعيم بن مسعود ، لأنه لا يخلو من مساعد له على ذلك القول .
الرابع : أن يعود على مضاف محذوف وهو آل ، تقديره : على خوف من آل فرعون وملئهم ، قاله ، كما حذف في قوله الفراء
واسأل القرية .
[ ص: 256 ] قال بعد أن حكى هذا ولم يعزه لأحد : " وهذا عندنا غلط ، لأن المحذوف لا يعود إليه ضمير ، إذ لو جاز ذلك لجاز أن يقول : " زيد قاموا " وأنت تريد " غلمان زيد قاموا " . قلت : قوله " لأن المحذوف لا يعود إليه ضمير " ممنوع ، بل إذا حذف مضاف فللعرب فيه مذهبان : الالتفات إليه وعدمه وهو الأكثر ، ويدل على ذلك أنه قد جمع بين الأمرين في قوله أبو البقاء وكم من قرية أهلكناها أي : أهل قرية ، ثم قال : " أو هم قائلون " وقد حققت ذلك في موضعه المشار إليه . وقوله : " لجاز زيد قاموا " ليس نظيره ، فإن فيه حذفا من غير دليل بخلاف الآية .
وقال الشيخ - بعد أن حكى كلام - ورد عليه بأن الخوف يمكن من الفراء فرعون ، ولا يمكن سؤال القرية ، فلا يحذف إلا ما دل عليه الدليل ، وقد يقال : ويدل على هذا المحذوف جمع الضمير في " وملئهم " . قلت : يعني أنهم ردوا على بالفرق بين وسئل القرية وبين هذه الآية بأن سؤال القرية غير ممكن فاضطررنا إلى تقدير المضاف بخلاف الآية ، فإن الخوف تمكن من الفراء فرعون فلا اضطرار بنا يدلنا على مضاف محذوف . وجواب هذا أن الحذف قد يكون لدليل عقلي أو لفظي ، على أنه قيل في " واسأل القرية " إنه حقيقة ، إذ يمكن النبي أن يسأل القرية فتجيبه .
الخامس : أن ثم معطوفا محذوفا حذف للدلالة عليه ، والدليل كون الملك لا يكون وحده ، بل له حاشية وعساكر وجند ، فكان التقدير : على خوف من فرعون وقومه وملئهم ، أي : ملأ فرعون وقومه ، وهو منقول عن أيضا . قلت : حذف المعطوف قليل في كلامهم ، ومنه عند بعضهم [ ص: 257 ] قوله تعالى الفراء تقيكم الحر أي : والبرد ، وقول الآخر :
2619 - كأن الحصى من خلفها وأمامها إذا حذفته رجلها حذف أعسرا
أي : ويدها .قوله : أن يفتنهم فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه في محل جر على البدل من " فرعون " ، وهو بدل اشتمال تقديره : على خوف من فرعون فتنته كقولك : " أعجبني زيد علمه " . الثاني : أنه في موضع نصب على المفعول به بالمصدر أي : خوف فتنته ، وإعمال المصدر المنون كثير كقوله : أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما . وقول الآخر :
2620 - فلولا رجاء النصر منك ورهبة عقابك قد كانوا لنا بالموارد
وقرأ ونبيح " يفتنهم " بضم الياء وقد تقدم ذلك . الحسن
و " في الأرض " متعلق بـ " عال " أي : قاهر فيها أو ظالم كقوله :
2621 - فاعمد لما تعلوا فما لك بالذي لا تستطيع من الأمور يدان