قوله : فعميت قرأ الأخوان وحفص بضم العين وتشديد الميم ، والباقون بالفتح والتخفيف . فأما القراءة الأولى فأصلها : عماها الله عليكم ، أي : أبهمهما عقوبة لكم ، ثم بني الفعل لما لم يسم فاعله ، فحذف فاعله للعلم به وهو الله تعالى ، وأقيم المفعول وهو ضمير الرحمة مقامه ، ويدل على ذلك قراءة بهذا الأصل " فعماها الله عليكم " ، وروي عنه أيضا وعن أبي الحسن وعلي " فعماها " من غير ذكر فاعل لفظي ، وروي عن والسلمي الأعمش " وعميت " بالواو دون الفاء . وابن وثاب
[ ص: 314 ] وأما القراءة الثانية فإنه أسند الفعل إليها مجازا . قال : " فإن قلت : ما حقيقته ؟ قلت : حقيقته أن الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء ؛ لأن الأعمى لا يهتدي ولا يهدي غيره ، فمعنى " فعميت عليكم البينة " : فلم تهدكم كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد " . الزمخشري
وقيل : هذا من باب القلب ، وأصلها فعميتم أنتم عنها كما تقول : أدخلت القلنسوة في رأسي ، وأدخلت الخاتم في إصبعي وهو كثير ، وتقدم تحرير الخلاف فيه ، وأنشدوا على ذلك :
2654 - ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه ... ... ... ...
قال : " وهذا مما يقلب ، إذ ليس فيه إشكال ، وفي القرآن أبو علي فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ، وبعضهم يخرج البيت على الاتساع في الظرف . وأما آية إبراهيم فأخلف يتعدى لاثنين ، فأنت بالخيار : أن تضيف إلى أيهما شئت فليس من باب القلب . وقد رد بعضهم كون هذه الآية من باب المقلوب بأنه لو كان كذلك لتعدى بـ " عن " دون " على " ، ألا ترى أنك تقول : " عميت عن كذا " لا " على كذا " .واختلف في الضمير في " عميت " هل هو عائد على البينة فيكون قوله : " وآتاني رحمة " جملة معترضة بين المتعاطفين ، إذ حقه ( على بينة من ربي ... فعميت ) . وإن قيل بأنه عائد على الرحمة فيكون قد حذف من الأول لدلالة [ ص: 315 ] الثاني ، والأصل : على بينة من ربي فعميت . قال : " وآتاني رحمة بإتيان البينة ، على أن البينة في نفسها هي الرحمة . ويجوز أن يريد بالبينة المعجزة ، وبالرحمة النبوة . فإن قلت : فقوله : الزمخشري " فعميت " ظاهر على الوجه الأول فما وجهه على الوجه الثاني ، وحقه أن يقال : فعميتا ؟ قلت : الوجه أن يقدر : فعميت بعد البينة ، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة " .
انتهى .
وقد تقدم الكلام على " أرأيتم " هذه في الأنعام ، وتلخيصه هنا أن " أرأيتم " يطلب البينة منصوبة ، وفعل الشرط يطلبها مجرورة بـ " على " ، فأعمل الثاني وأضمر في الأول ، والتقدير : أرأيتم البينة من ربي إن كنت عليها أنلزمكموها ، فحذف المفعول الأول ، والجملة الاستفهامية هي في محل الثاني ، وجواب الشرط محذوف للدلالة عليه .
وقوله : أنلزمكموها أتى هنا بالضميرين متصلين ، وتقدم ضمير الخطاب لأنه أخص ، ولو جيء بالغائب أولا لانفصل الضمير وجوبا . وقد أجاز بعضهم الاتصال ، واستشهد " أراهمني الباطل شيطانا " . وقال عثمان : " يجوز أن يكون الثاني منفصلا كقوله : " أنلزمكم إياها " ونحوه : الزمخشري فسيكفيكهم الله ويجوز " فسيكفيك إياهم " . وهذا الذي قاله ظاهر قول الزمخشري وإن كان بعضهم منعه . سيبويه
[ ص: 316 ] وإشباع الميم في مثل هذا التركيب واجب ، ويضعف سكونها ، وعليه " أراهمني الباطل " . وقال : " وقرئ بإسكان الميم فرارا من توالي الحركات " فقوله هذا يحتمل أن يكون أراد سكون ميم الجمع ؛ لأنه قد ذكر ذلك بعدما قال : " ودخلت الواو هنا تتمة للميم ، وهو الأصل في ميم الجمع ، وقرئ بإسكان الميم " . انتهى . وهذا إن ثبت قراءة فهو مذهب أبو البقاء ليونس : يجوز " الدرهم أعطيتكمه " وغيره يأباه . ويحتمل أن يريد سكون ميم الفعل ، ويدل عليه ما قال " أجمع النحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكان حركة الإعراب إلا في ضرورة الشعر ، فأما ما روي عن الزجاج فلم يضبطه عنه القراء ، وروى عنه أبي عمرو أنه كان يخف الحركة ويختلسها ، وهذا هو الحق ، وإنما يجوز الإسكان في الشعر نحو قول سيبويه امرئ القيس :
2655 - فاليوم أشرب غير مستحقب ... ... ... ...
[ ص: 317 ] قلت : وقد حكى الكسائي " أنلزمكموها " بسكون هذه الميم ، وقد تقدم القول في ذلك مشبعا في سورة البقرة ، أعني تسكين حركة الإعراب فكيف يجعلونه لحنا ؟ . والفراء
و " ألزم " يتعدى لاثنين ، أولهما ضمير الخطاب ، والثاني ضمير الغيبة . و وأنتم لها كارهون جملة حالية ، يجوز أن تكون للفاعل أو لأحد المفعولين . وقدم الجار لأجل الفواصل . وفي الآية قراءات شاذة مخالفة للسواد أضرب عنها لذلك .