آ. (5) قوله تعالى: فعجب قولهم : يجوز فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه خبر مقدم، و "قولهم" مبتدأ مؤخر، ولا بد من حذف صفة لتتم الفائدة، أي: فعجب أي عجب، أو غريب ونحوه. والثاني: أنه مبتدأ، وسوغ الابتداء ما ذكرته من الوصف المقدر، ولا يضر حينئذ كون خبره، معرفة، [ ص: 16 ] وهذا كما أعرب "كم" من "كم مالك" و "خير" من "اقصد رجلا خير منه أبوه" مبتدأين لمسوغ الابتداء بهما، وخبرهما معرفة. قاله الشيخ وللنزاع فيه مجال. سيبويه
على أن هناك علة لا تتأتى ههنا: وهي أن الذي حمل على ذلك في المسألتين أن أكثر ما يقع موقع "كم" و "خير" ما هو مبتدأ، فلذلك حكم عليهما بحكم الغالب بخلاف ما نحن فيه. سيبويه
الثالث: أن "عجب" مبتدأ بمعنى معجب، و "قولهم" فاعل به، قاله ورد عليه الشيخ: بأنهم نصوا على أن "فعلا" و "فعلة" و "فعلا" ينوب عن مفعول في المعنى ولا يعمل عمله، فلا تقول: مررت برجل ذبح كبشه، ولا غرفة ماؤه، ولا قبض ماله. قلت: وأيضا فإن الصفات لا تعمل إلا إذا اعتمدت على أشياء مخصوصة، وليس منها هنا شيء. أبو البقاء،
قوله: أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد يجوز في هذه الجملة الاستفهامية وجهان، أحدهما: - وهو الظاهر - أنها منصوبة المحل لحكايتها بالقول. والثاني: أنها وما في حيزها في محل رفع بدلا من قولهم، وبه بدأ ، ويكون بدل كل من كل، لأن هذا هو نفس قولهم. و "إذا" هنا ظرف محض، وليس فيها معنى الشرط، والعامل فيها مقدر يفسره الزمخشري لفي خلق جديد تقديره: أإذا كنا ترابا نبعث أو نحشر، ولا يعمل فيها خلق جديد [ ص: 17 ] لأن ما بعد "إذا" لا يعمل فيما قبلها، ولا يعمل فيها أيضا "كنا" لإضافتها إليها.
واختلف القراء في هذا الاستفهام المكرر اختلافا منتشرا، وهو في أحد عشر موضعا من القرآن، فلا بد من تعيينها وبيان مراتب القراء فيها، فإن في ضبطها عسرا يسهل بعون الله تعالى:
أما المواضع المذكورة، فأولها ما في هذه السورة. الثاني والثالث كلاهما في "الإسراء" وهما: أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا موضعان. الرابع في (المؤمنون): أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون . وفي (النمل): أإذا كنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون ، وفي (العنكبوت): إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أإنكم لتأتون الرجال .
وفي (الم، السجدة): أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد . وفي (الصافات) موضعان، وفي (الواقعة) موضع: أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون . وفي (النازعات): أإنا لمردودون في الحافرة أإذا كنا عظاما نخرة . [ ص: 18 ] هذه هي المواضع المختلف فيها، وأما ضبط الخلاف فيها بالنسبة إلى القراء ففيه طريقان، أحدهما بالنسبة إلى ذكر القراء، والثاني: بالنسبة إلى ذكر السور وهذا الثاني أقرب، فلذلك بدأت به فأقول: هذه المواضع تنقسم قسمين: قسم منها سبعة مواضع لها حكم واحد، وقسم منها أربعة مواضع، لكل منها حكم على حدته.
أما القسم الأول: فمنه في هذه السورة، والثاني والثالث في سبحان، والرابع في المؤمنين، والخامس في الم السجدة، والسادس والسابع في الصافات، وقد عرفت أعيانها مما تقدم.
أما حكمها: فإن نافعا والكسائي يستفهمان في الأول ويخبران في الثاني، وأن يخبر في الأول، ويستفهم في الثاني، وأن الباقين يستفهمون في الأول والثاني. ابن عامر
وأما القسم الثاني: فأوله [ما في سورة النمل]، وحكمه: أن يخبر في الأول ويستفهم في الثاني، وأن نافعا ابن عامر يعكسه، أي: يستفهمان في الأول ويخبران في الثاني، وأن الباقين يستفهمون فيهما. الثاني: ما في سورة العنكبوت، وحكمه: أن والكسائي نافعا وابن كثير وابن عامر وحفصا يخبرون في الأول ويستفهمون في الثاني، وأن الباقين يستفهمون فيهما.
[ ص: 19 ] الثالث: ما في سورة الواقعة، وحكمه: أن نافعا يستفهمان في الأول، ويخبران في الثاني، وأن الباقين يستفهمون فيهما. الرابع ما في سورة النازعات، وحكمه: أن والكسائي نافعا وابن عامر يستفهمون في الأول ويخبرون في الثاني، وأن الباقين يستفهمون فيهما. والكسائي
وأما الطريق الآخر بالنسبة إلى القراء فأقول: إن القراء فيها على أربع مراتب، والأولى: - رحمه الله - قرأ بالاستفهام في الأول وبالخبر في الثاني، إلا في النمل والعنكبوت فإنه عكس. المرتبة الثانية: أن نافعا ابن كثير وحفصا قرآ بالاستفهام في الأول والثاني، إلا الأول من العنكبوت فقرآه بالخبر. المرتبة الثالثة: أن قرأ بالخبر في الأول والاستفهام في الثاني، إلا في النمل والواقعة والنازعات، فقرأ في النمل والنازعات بالاستفهام في الأول، وبالخبر في الثاني، وفي الواقعة بالاستفهام فيهما. المرتبة الرابعة: الباقون - وهم ابن عامر أبو عمرو وحمزة - قرؤوا بالاستفهام في الأول والثاني، ولم يخالف أحد منهم أصله، وإنما ذكرت هذين الطريقين لعسرهما وصعوبة استخراجهما من كتب القراءات. وأبو بكر
ثم الوجه في قراءة من استفهم في الأول والثاني قصد المبالغة في الإنكار، فأتى به في الجملة الأولى، وأعاده في الثانية تأكيدا له، والوجه في قراءة من أتى به في مرة واحدة حصول المقصود به; لأن كل جملة مرتبطة بالأخرى، فإذا أنكر في إحداهما حصل الإنكار في الأخرى، وأما من خالف أصله في شيء من ذلك فلاتباع الأثر.