قوله: إلا أن دعوتكم فيه وجهان، أظهرهما: أنه استثناء منقطع لأن دعاءه ليس من جنس السلطان وهو الحجة البينة. والثاني: أنه متصل، لأن القدرة على حمل الإنسان على الشر تارة تكون بالقهر، وتارة تكون بقوة الداعية في قلبه، وذلك بالوسوسة إليه فهو نوع من التسلط.
وقرئ: "فلا يلوموني" بالياء من تحت على الالتفات، كقوله: حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم .
قوله: بمصرخي العامة على فتح الياء; لأن الياء المدغم فيها تفتح أبدا لا سيما وقبلها كسر ثان. وقرأ بكسرها، وهي لغة حمزة بني يربوع. وقد اضطربت أقوال الناس في هذه القراءة اضطرابا شديدا: فمن مجترئ [ ص: 89 ] عليها ملحن لقارئها، ومن مجوز لها من غير ضعف، ومن مجوز لها بضعف.
قال "سألت حسين الجعفي: عن كسر الياء فأجازه". وهذه الحكاية تحكى عنه بطرق كثيرة، منها ما تقدم، ومنها: "سألت أبا عمرو وقلت: إن أصحاب النحو يلحنوننا فيها فقال: هي جائزة أيضا، إنما أراد تحريك الياء، فلست تبالي إذا حركتها إلى أسفل أم إلى فوق". وعنه: من شاء فتح، ومن شاء كسر، ومنها أنه قال: إنها بالخفض حسنة. وعنه قال: قدم علينا أبا عمرو فسألته عن القرآن فوجدته به عالما، فسألته عن شيء [من] قراءة أبو عمرو بن العلاء واستشعرته الأعمش "وما أنتم بمصرخي" بالجر فقال: هي جائزة، فلما أجازها وقرأ بها أخذت بها. الأعمش
وقد أنكر على أبو حاتم تحسينه لهذه القراءة، ولا التفات إليه لأنه علم من أعلام القرآن واللغة والنحو، واطلع على ما لم يطلع عليه [من فوق أبي عمرو السجستاني]:
7287 - وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس
ثم ذكر العلماء في ذلك توجيهات: منها أن الكسر على أصل التقاء الساكنين، وذلك أن ياء الإعراب ساكنة، وياء المتكلم أصلها السكون، فلما التقيا كسرت لالتقاء الساكنين. الثاني: أنها تشبه هاء الضمير في أن كلا منهما ضمير على حرف واحد، وهاء الضمير توصل بواو إذا كانت مضمومة، وبياء إذا كانت مكسورة، وتكسر بعد الكسرة والياء الساكنة، فتكسر كما تكسر الهاء في "عليه"، وبنو يربوع يصلونها بياء، كما يصل نحو: [ ص: 90 ] "عليهي" بياء، ابن كثير كسر هذه الياء من غير صلة، إذ أصله يقتضي عدمها. وزعم فحمزة قطرب أيضا أنها لغة بني يربوع، قال: يزيدون على ياء الإضافة ياء، وأنشد: 2878 - ماض إذا ما هم بالمضي قال لها: هل لك ياتا في
وممن طعن عليها أبو إسحاق قال: "هذه القراءة عند جميع النحويين رديئة مرذولة ولا وجه لها إلا وجه ضعيف". وقال "صار هذا إدغاما، ولا يجوز أن يحمل كتاب الله تعالى على الشذوذ". وقال أبو جعفر: : هي ضعيفة، واستشهدوا لها ببيت مجهول: الزمخشري
2879 - قال لها: هل لك ياتا في قالت له: ما أنت بالمرضي
قال الشيخ: أما قوله "واستشهدوا لها ببيت مجهول"، فقد ذكر غيره أنه للأغلب العجلي، وهي لغة باقية في أفواه كثير من الناس إلى اليوم يقولون: "ما في أفعل" بكسر الياء. قلت: الذي ذكر صاحب هذا الرجز هو الشيخ أبو شامة، قال: ورأيته أنا في أول ديوانه، وأول هذا الرجز:
2880 - أقبل في ثوب معافري عند اختلاط الليل والعشي
ثم قال: وأما قوله: "ياء الإضافة إلى آخره" قد روي سكون الياء بعد الألف، وقد قرأ بذلك القراء نحو "محياي". قلت: مجيء السكون في هذه الياء لا يفيده ههنا، وإنما كان يفيده لو جاء بها مكسورة بعد الألف فإنه محل البحث. وأنشد النحاة بيت الذبياني بالكسر والفتح، وهو قوله:
2881 - علي لعمرو نعمة بعد نعمة لوالده ليست بذات عقارب
قال: "ومما نرى أنهم وهموا فيه قوله: "نوله ما تولى ونصله جهنم" بالجزم في الهاء". ثم ذكر غير ذلك.
وقال "أما الخفض فإنا نراه غلطا، لأنهم ظنوا أن الباء تكسر كل ما بعدها، وقد كان في القراء من يجعله لحنا، ولا أحب أن أبلغ به هذا كله، ولكن وجه القراءة عندنا غيرها". [ ص: 93 ] قال أبو عبيد: "ما سمعت بهذا من أحد من العرب ولا من أحد من النحويين". قال الأخفش: "فصار هذا إجماعا". النحاس:
قلت: ولا إجماع. فقد تقدم ما حكاه الناس من أنها لغة ثانية لبعض العرب. وقد انتدب لنصرة هذه القراءة قال في "حجته": "وجه ذلك أن الياء ليست تخلو من أن تكون في موضع نصب أو جر، فالياء في النصب والجر كالهاء فيهما، وكالكاف في "أكرمتك" و "هذا لك"، فكما أن الهاء قد لحقتها الزيادة في هذا: لهو، وضربهو، ولحق الكاف أيضا الزيادة في قول من قال "أعطيتكاه" و "أعطيتكيه" فيما حكاه أبو علي الفارسي، وهما أختا الياء، ولحقت التاء الزيادة في قول الشاعر: سيبويه،
2882 - رميتيه فأصميت وما أخطأت [في] الرميه
2883 - ... ... ... ... له أرقان
ثم قال كما حذفت الزيادة من الكاف فقيل: أعطيتكه وأعطيتكه، كذلك حذفت الياء اللاحقة للياء كما حذفت من أختيها، وأقرت الكسرة التي كانت تلي الياء المحذوفة فبقيت الياء على ما كانت عليه من الكسر. قال: "فإذا كانت الكسرة في الياء على هذه اللغة وإن كان غيرها أفشى منها، وعضده من القياس ما ذكرناه لم يجز لقائل أن يقول: إن القراءة بذلك لحن لاستقامة ذلك في السماع والقياس، وما كان كذلك لا يكون لحنا". الفارسي:
قلت: وهذا التوجيه هو توضيح للتوجيه الثاني الذي قدمت ذكره. وأما التوجيه الأول فأوضحه أيضا، قال الفراء "أجاز الزجاج: على وجه ضعيف الكسر لأن أصل التقاء الساكنين الكسر". الفراء
قال "ألا ترى أنهم يقولون: مذ اليوم، ومذ اليوم، والرفع في الذال هو الوجه، لأنه أصل حركة "منذ"، والخفض جائز، فكذلك الياء من "مصرخي" خفضت ولها أصل في النصب. الفراء:
قلت: تشبيه المسألة بـ "مذ اليوم" فيه نظر; لأن الحرف الأول صحيح، ولم يتوال قبله كسر بخلاف ما نحن فيه، وهذا هو الذي عناه الفراء بقوله فيما قدمته عنه: "فكأنها وقعت بعد حرف صحيح". [ ص: 95 ] وقد اضطرب النقل عن الزمخشري في هذه المسألة كما رأيت "من نقل بعضهم عنه التخطئة مرة، والتصويب أخرى، ولعل الأمر كذلك، فإن العلماء يسألون فيجيبون بما يحضرهم حال السؤال وهي مختلفة". الفراء
التوجيه الثالث: أن الكسر للإتباع لما بعدها، وهو كسر الهمز من "إني" كقراءة: "الحمد لله"، وقولهم: بعير وشعير وشهيد، بكسر أوائلها إتباعا لما بعدها، وهو ضعيف جدا.
التوجيه الرابع: أن المسوغ لهذا الكسر في الياء وإن كان مستثقلا أنها لما أدغمت فيها التي قبلها قويت بالإدغام، فأشبهت الحروف الصحاح فاحتملت الكسر; لأنه إنما يستثقل فيها إذا خفت وانكسر ما قبلها، ألا ترى أن حركات الإعراب تجري على المشدد وما ذاك إلا لإلحاقه بالحروف الصحاح.
والمصرخ: المغيث يقال: استصرخته فأصرخني، أي: أعانني، وكأن همزته للسلب، أي: أزال صراخي. والصارخ هو المستغيث. قال الشاعر:
2884 - ولا تجزعوا إني لكم غير مصرخ وليس لكم عندي غناء ولا نصر
2885 - كنا إذا ما أتانا صارخ فزع كان الصراخ له قرع الظنابيب
والصريخ: القوم المستصرخون قال:
2886 - قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم ما بين ملجم مهره أو سافع
قوله: بما أشركتمون يجوز في "ما" وجهان: أحدهما: أن تكون بمعنى الذي. ثم في المراد بهذا الموصول وجهان، أحدهما: أنه الأصنام، تقديره: بالصنم الذي أطعتموني كما أطعتموه، كذا قال والعائد محذوف، فقدره أبو البقاء، بما أشركتموني به، ثم حذف، يعني بعد حذف الجار ووصول الفعل إليه، ولا حاجة إلى تقديره مجرورا بالباء; لأن هذا الفعل متعد لواحد نحو: شركت زيدا، فلما دخلت همزة النقل أكسبته ثانيا هو العائد، تقول: أشركت زيدا عمرا، جعلته شريكا له. أبو البقاء:
الثاني: أنه الباري [ ص: 97 ] تعالى، أي: بما أشركتموني، أي: بالله تعالى، والكلام في العائد كما تقدم، إلا أن فيه إيقاع "ما" على من يعلم، والمشهور فيها أنها لغير العاقل.
قال : "ونحو: "ما" هذه "ما" في قولهم "سبحان ما سخركن"، ومعنى إشراكهم الشيطان بالله تعالى طاعتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان. قال الشيخ: ومن منع ذلك جعل "سبحان" علما للتسبيح كما جعل "برة" علما للمبرة، و "ما" مصدرية ظرفية، أي: فيكون على حذف مضاف، أي: سبحان صاحب تسخيركن; لأن التسبيح لا يليق إلا بالله. الزمخشري
الثاني من الوجهين الأولين: أنها مصدرية، أي: بإشراككم إياي.
قوله: من قبل متعلق بـ "كفرت" على القول الأول، أي: كفرت من قبل، حين أبيت السجود لآدم بالذي أشركتمونيه وهو الله تعالى، و بـ "أشركت" على الثاني، أي: كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم، أي في الدنيا، كقوله: ويوم القيامة يكفرون بشرككم هذا قول . وأما الزمخشري فإنه جوز تعلقه بكفرت وبأشركتموني، من غير ترتيب على كون "ما" مصدرية أو موصولية فقال: ومن قبل: متعلق بأشركتموني، أي: كفرت الآن بما أشركتموني من قبل. وقيل: وهي متعلقة بـ "كفرت" أي: كفرت من قبل إشراككم فلا أنفعكم شيئا. [ ص: 98 ] وقرأ أبو البقاء بإثبات الياء في "أشركتموني" وصلا وحذفها وقفا، وحذفها الباقون وصلا ووقفا. أبو عمرو
وهنا تم كلام الشيطان. وقوله: إن الظالمين من كلام الله تعالى، ويجوز أن يكون من كلام الشيطان. و "عذاب" يجوز رفعه بالجار قبله على أنه الخبر، وعلى الابتداء وخبره الجار.