855 - وبعض الحلم عند الجهـ ـل للذلة إذعان
أي: إذعان للذلة إذعان، وإنما لم يجز أن ينتصب بالرفث لأنه مصدر مقدر بموصول، ومعمول الصلة لا يتقدم على الموصول فلذلك احتجنا إلى إضمار عامل من لفظ المذكور. الثالث: أنه متعلق بالرفث، وذلك على رأي من يرى الاتساع في الظروف والمجرورات، وقد تقدم تحقيقه.وأضيفت الليلة اتساعا لأن شرط صحته وهو النية موجودة فيها، والإضافة [تحصل] بأدنى ملابسة، وإلا فمن حق الظرف المضاف إلى حدث أن يوجد ذلك الحدث في جزء من ذلك الظرف، والصوم في الليل غير معتبر، ولكن المسوغ لذلك ما ذكرت لك.
[ ص: 293 ] والجمهور على "أحل" مبنيا للمفعول للعلم به وهو الله تعالى، وقرئ مبنيا للفاعل، وفيه حينئذ احتمالان، أحدهما: أن يكون من باب الإضمار لفهم المعنى، أي أحل الله، لأن من المعلوم أنه هو المحلل والمحرم. والثاني: أن يكون الضمير عائدا على ما عاد عليه من قوله: "فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي" وهو المتكلم، ويكون ذلك التفاتا، وكذلك في قوله "لكم" التفات من ضمير الغيبة في: "فليستجيبوا وليؤمنوا". وعدي "الرفث" بإلى، وإنما يتعدى بالباء لما ضمن من معنى الإفضاء، كأنه قيل: أحل لكم الإفضاء إلى نسائكم بالرفث.
وقرأ "الرفوث". والرفث لغة مصدر: رفث يرفث إذا تكلم بالفحش، وأرفث أتى بالرفث، قال عبد الله العجاج:
856 - ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم
857 - ويرين من أنس الحديث زوانيا ولهن عن رفث الرجال نفار
858 - فظلنا هنالك في نعمة وكل اللذاذة غير الرفث
859 - وهن يمشين بنا هميسا إن يصدق الطير ننك لميسا
قوله: "كنتم تختانون" في محل رفع خبر لأن. و "تختانون" في محل نصب خبر لكان. قال "وكنتم هنا لفظها لفظ الماضي ومعناها المضي أيضا، والمعنى: أن الاختيان كان يقع منهم فتاب عليهم منه، وقيل: إنه أراد الاختيان في الاستقبال، وذكر "كان" ليحكي بها الحال كما تقول: إن فعلت كنت ظالما" وفي هذا الكلام نظر لا يخفى. أبو البقاء:
و "تختانون" تفتعلون من الخيانة، وعين الخيانة واو لقولهم: خان يخون، وفي الجمع: خونة، يقال: خان يخون خونا وخيانة، وهي ضد الأمانة، وتخونت الشيء تنقصته، قال زهير:
860 - بآرزة الفقارة لم يخنها قطاف في الركاب ولا خلاء
و "علم" إن كانت المتعدية لواحد بمعنى عرف، فتكون "أن" وما في حيزها سادة مسد مفعول واحد، وإن كانت المتعدية لاثنين كانت سادة مسد المفعولين على رأي ومسد أحدهما والآخر محذوف على مذهب الأخفش. سيبويه،
وقوله: "هن لباس لكم" لا محل له من الإعراب، لأنه بيان للإحلال فهو استئناف وتفسير. وقدم قوله: "هن لباس لكم" على "وأنتم لباس لهن" تنبيها على ظهور احتياج الرجل للمرأة وعدم صبره عنها، ولأنه هو البادئ بطلب ذلك، وكنى باللباس عن شدة المخالطة كقوله - هو -: النابغة الجعدي
861 - إذا ما الضجيع ثنى جيدها تثنت عليه فكانت لباسا
862 - لبست أناسا فأفنيتهم وأفنيت بعد أناس أناسا
وقرئ: "واتبعوا" من الاتباع، وتروى عن ابن عباس ومعاوية ابن قرة وفسروا والحسن البصري. "ما كتب الله" بليلة القدر، أي: اتبعوا ثوابها، قال "وهو قريب من بدع التفاسير". الزمخشري:
قوله: "حتى يتبين" "حتى" هنا غاية لقوله: "كلوا واشربوا" بمعنى إلى، ويقال: تبين الشيء وأبان واستبان وبان كله بمعنى، وكلها تكون متعدية ولازمة، إلا "بان" فلازم ليس إلا. و "من الخيط" من لابتداء الغاية وهي ومجرورها في محل نصب بـ "يتبين"، لأن المعنى: حتى يباين الخيط الأبيض الأسود.
و "من الفجر" يجوز فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكون تبعيضية فتتعلق أيضا بـ "يتبين"; لأن الخيط الأبيض وهو بعض الفجر وأوله، ولا يضر تعلق حرفين بلفظ واحد بعامل واحد لاختلاف معناهما. والثاني: أن تتعلق بمحذوف على أنها حال من الضمير في الأبيض، أي: الخيط الذي هو أبيض كائنا من الفجر، وعلى هذا يجوز أن تكون "من" لبيان الجنس كأنه قيل: [ ص: 297 ] الخيط الأبيض الذي هو الفجر. والثالث: أن يكون تمييزا، وهو ليس بشيء، وإنما بين قوله "الخيط الأبيض" بقوله: "من الفجر"، ولم يبين الخيط الأسود فيقول: من الليل اكتفاء بذلك، وإنما ذكر هذا دون ذاك لأنه هو المنوط به الأحكام المذكورة من المباشرة والأكل والشرب.
وهذا من أحسن التشبيهات حيث شبه بياض النهار بخيط أبيض، وسواد الليل بخيط أسود، حتى إنه لما ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فهم من الآية حقيقة الخيط تعجب منه، وقال: عدي بن حاتم ويروى: "إن وسادك لعريض" وقد روي أن بعض الصحابة فعل كفعل "إنك لعريض القفا". ويروى أن بين قوله "الخيط الأبيض"" من الخيط الأسود" عاما كاملا في النزول. وهذا النوع من باب التشبيه من الاستعارة، لأن الاستعارة هي أن يطوى فيها ذكر المشبه، وهنا قد ذكر وهو قوله: "من الفجر"، ونظيره قولك: "رأيت أسدا من زيد" لو لم تذكر: "من زيد" لكان استعارة. ولكن التشبيه هنا أبلغ، لأن الاستعارة لا بد فيها من دلالة حالية، وهنا ليس ثم دلالة، ولذلك مكث بعض الصحابة يحمل ذلك على الحقيقة مدة، حتى نزل "من الفجر" فتركت الاستعارة وإن كانت أبلغ لما ذكرت لك. والفجر مصدر فجر يفجر أي: انشق. عدي،
قوله: "إلى الليل" فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلق بالإتمام فهو غاية له. والثاني: أنه في محل نصب على الحال من الصيام، فيتعلق بمحذوف، أي: كائنا إلى الليل، و "إلى" إذا كان ما بعدها من غير جنس ما قبلها لم يدخل فيه، والآية من هذا القبيل.
[ ص: 298 ] "وأنتم عاكفون" جملة حالية من فاعل "تباشروهن"، والمعنى: لا تباشروهن وقد نويتم الاعتكاف في المسجد، وليس المراد النهي عن مباشرتهن في المسجد بقيد الاعتكاف، لأن ذلك ممنوع منه في غير الاعتكاف أيضا.
والعكوف: الإقامة والملازمة له، يقال: عكف بالفتح يعكف بالضم والكسر، وقد قرئ: "يعكفون على أصنام" بالوجهين وقال الفرزدق:
863 - ترى حولهن المعتفين كأنهم على صنم في الجاهلية عكف
864 - وظل بنات الليل حولي عكفا عكوف البواكي بينهن صريع
قوله: "تلك حدود الله" مبتدأ وخبر، واسم الإشارة أخبر عنه بجمع، فلا جائز أن يشار به إلى ما نهي عنه في الاعتكاف لأنه شيء واحد، بل هو إشارة [ ص: 299 ] إلى ما تضمنته آية الصيام من أولها إلى هنا، وآية الصيام قد تضمنت عدة أوامر، والأمر بالشيء نهي عن ضده، فبهذا الاعتبار كانت عدة مناهي، ثم جاء آخرها صريح النهي وهو: "ولا تباشروهن" فأطلق على الكل "حدودا" تغليبا للمنطوق به، واعتبارا بتلك المناهي التي تضمنتها الأوامر، فقيل فيها حدود، وإنما اضطررنا إلى هذا التأويل لأن المأمور به لا يقال فيه "فلا تقربوها".
قال "دخول الفاء هنا عاطفة على شيء محذوف تقديره: "تنبهوا فلا تقربوها"، ولا يجوز في هذه الفاء أن تكون زائدة كالتي في قوله تعالى:" أبو البقاء: وإياي فارهبون" على أحد القولين، لأنه كان ينبغي أن ينتصب "حدود الله" على الاشتغال، لأنه الفصيح فيما وقع قبل أمر أو نهي نحو: "زيدا فاضربه، وعمرا فلا تهنه" فلما أجمعت القراء هنا على الرفع علمنا أن هذه الجملة التي هي "فلا تقربوها" منقطعة عما قبلها، وإلا يلزم وجود غير الفصيح في القرآن.
والحدود: جمع حد وهو المنع، ومنه قيل للبواب: حداد، لأنه يمنع من العبور. وحد الشيء منتهاه ومنقطعه، ولهذا يقال: الحد مانع جامع أي: يمنع غير المحدود الدخول في المحدود. والنهي عن القربان أبلغ من النهي عن الالتباس بالشيء، فلذلك جاءت الآية الكريمة.
وقال هنا: "فلا تقربوها" وفي مواضع أخر: "فلا تعتدوها" ومثله:
[ ص: 300 ] "ومن يتعد حدود الله"" ويتعد حدوده" لأنه غلب هنا جهة النهي إذ هو المعقب بقوله: "تلك حدود الله" وما كان منهيا عن فعله كان النهي عن قربانه أبلغ، وأما الآيات الأخر فجاء "فلا تعتدوها" عقب بيان أحكام ذكرت قبل كالطلاق والعدة والإيلاء والحيض والمواريث، فناسب أن ينهى عن التعدي فيها، وهو مجاوزة الحد الذي حده الله فيها.
قوله: "كذلك يبين الله" الكاف في محل نصب: إما نعتا لمصدر محذوف، أي: بيانا مثل هذا البيان، أو حالا من المصدر المحذوف كما هو مذهب سيبويه.