آ. (2) قوله: قيما : فيه أوجه، أحدها: أنه حال من "الكتاب". والجملة من قوله: "ولم يجعل" اعتراض بينهما. وقد منع ذلك فقال: فإن قلت: بم انتصب "قيما"؟ قلت: الأحسن أن ينتصب بمضمر، ولم يجعل حالا من "الكتاب" لأن قوله: الزمخشري "ولم يجعل" معطوف على "أنزل" فهو داخل في حيز الصلة، فجاعله حالا فاصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة. وكذلك قال وجواب هذا ما تقدم من أن الجملة اعتراض لا معطوفة على الصلة. أبو البقاء.
الثاني: أنه حال من الهاء في "له". قال "والحال موكدة. وقيل: منتقلة". قلت: القول بالانتقال لا يصح. أبو البقاء:
[ ص: 434 ] الثالث: أنه منصوب بفعل مقدر، تقديره: جعله قيما. قال : "تقديره: ولم يجعل له عوجا، جعله قيما، لأنه إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة". قال: "فإن قلت: ما فائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة وفي أحدهما غنى عن الآخر؟. قلت: فائدته التأكيد فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة، ولا يخلو من أدنى عوج عند السبر والتصفح". الزمخشري
الرابع: أنه حال ثانية، والجملة المنفية قبله حال أيضا، وتعدد الحال لذي حال واحد جائز. والتقدير: أنزله غير جاعل له عوجا قيما.
الخامس: أنه حال أيضا، ولكنه بدل من الجملة قبله لأنها حال، وإبدال المفرد من الجملة إذا كانت بتقدير مفرد جائز. والتقدير: وهذا كما أبدلت الجملة من المفرد في قولهم: "عرفت زيدا أبو من هو".
والضمير في "له" فيه وجهان، أحدهما: أنه للكتاب، وعليه التخاريج المتقدمة. والثاني: أنه يعود على "عبده"، وليس بواضح.
وقرأ العامة بتشديد الياء. بفتحها خفيفة. وقد تقدم القول فيها. وأبان بن تغلب
ووقف حفص على تنوين "عوجا" يبدله ألفا، [ويسكت] سكتة لطيفة [ ص: 435 ] من غير قطع نفس، إشعارا بأن "قيما" ليس متصلا ب "عوجا"، وإنما هو من صفة الكتاب. وغيره لم يعبأ بهذا الوهم فلم يسكت اتكالا على فهم المعنى.
قلت: قد يتأيد ما فعله حفص بما في بعض مصاحف الصحابة: "ولم يجعل له عوجا، لكن جعله قيما". وبعض القراء يطلق فيقول: يقف على "عوجا"، ولم يقولوا: يبدل التنوين ألفا، فيحتمل ذلك، وهو أقرب لغرضه فيما ذكرت.
ورأيت الشيخ شهاب الدين أبا شامة قد نقل هذا عن ابن غلبون وأبي علي الأهوازي، أعني الإطلاق. ثم قال: "وفي ذلك نظر -أي في إبدال التنوين ألفا فإنه لو وقف على التنوين لكان أدل على غرضه، وهو أنه واقف بنية الوصل". انتهى.
وقال "ليس هو وقفا مختارا، لأن في الكلام تقديما وتأخيرا، معناه: أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا". قلت: دعوى التقديم والتأخير وإن كان قال به غيره، إلا أنها مردودة بأنها على خلاف الأصل، وقد تقدم تحقيقه. الأهوازي:
وفعل حفص في مواضع من القرآن مثل فعله هنا من سكتة لطيفة نافية لوهم مخل. فمنها: أنه كان يقف على "مرقدنا"، ويبتدئ: هذا ما وعد الرحمن . قال: لئلا يتوهم أن "هذا" صفة ل "مرقدنا" فالوقف [ ص: 436 ] يبين أن كلام الكفار انقضى، ثم ابتدئ بكلام غيرهم. قيل: هم الملائكة. وقيل: هم المؤمنون. وسيأتي في يس ما يقتضي أن يكون "هذا" صفة ل "مرقدنا" فيفوت ذلك.
ومنها: وقيل من راق . كان يقف على نون "من" ويبتدئ "راق" قال: لئلا يتوهم أنها كلمة واحدة على فعال اسم فاعل للمبالغة من مرق يمرق فهو مراق.
ومنها: بل ران كان يقف على لام بل، ويبتدئ "ران" لما تقدم.
قال المهدوي: "وكان يلزم حفصا مثل ذلك، فيما شاكل هذه المواضع، وهو لا يفعله، فلم يكن لقراءته وجه من الاحتجاج إلا اتباع الأثر في الرواية". قال أبو شامة: "أولى من هذه المواضع بمراعاة الوقف عليها: ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا ، الوقف على "قولهم" لئلا يتوهم أن ما بعده هو المقول، وكذا أنهم أصحاب النار الذين يحملون العرش ينبغي أن يعتنى بالوقف على "النار" لئلا تتوهم الصفة".
قلت: وتوهم هذه الأشياء من أبعد البعيد. وقال أبو شامة أيضا: "ولو لزم الوقف على اللام والنون ليظهرا للزم ذلك في كل مدغم". قلت: يعني في "بل ران" وفي "من راق".
قوله: "لينذر" في هذه اللام وجهان، أحدهما: أنها متعلقة ب "قيما" [ ص: 437 ] قاله والثاني: - وهو الظاهر - أنها تتعلق ب "أنزل". وفاعل "لينذر" يجوز أن يكون "الكتاب" وأن يكون الله، وأن يكون الرسول. الحوفي.
و "أنذر" يتعدى لاثنين: إنا أنذرناكم عذابا قريبا ، فقل أنذرتكم صاعقة . ومفعوله الأول محذوف، فقدره : "لينذر الذين كفروا"، وغيره: "لينذر العباد"، أو "لينذركم"، أو لينذر العالم. وتقديره أحسن لأنه مقابل لقوله: الزمخشري ويبشر المؤمنين ، وهو ضدهم.
وكما حذف المنذر وأتى بالمنذر به هنا، حذف المنذر به وأتى بالمنذر في قوله: وينذر الذين قالوا فحذف الأول من الأول لدلالة ما في الثاني عليه، وحذف الثاني من الثاني لدلالة ما في الأول عليه، وهو في غاية البلاغة، ولما لم تتكرر البشارة ذكر مفعوليها فقال: ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا .
قوله: من لدنه قرأ عن أبو بكر بسكون الدال مشمة الضم وكسر النون والهاء موصلة بياء، فيقرأ: "من لدنهي" والباقون يضمون الدال، ويسكنون [النون] ويضمون الهاء، وهم على قواعدهم فيها: عاصم يصلها بواو نحو: منهو وعنهو، وغيره لا يصلها بشيء. فابن كثير
ووجه أبي بكر: أنه سكن الدال تخفيفا كتسكين عين "عضد" والنون [ ص: 438 ] ساكنة، فالتقى ساكنان فكسر النون لالتقاء الساكنين، وكان حقه أن يكسر الأول على القاعدة المعروفة إلا أنه يلزم منه العود إلى ما فر منه، وسيأتي لتحقيق هذا بيان في قوله: ويخش الله ويتقه في سورة النور، فهناك نتكلم فيه، ولما كسر النون لما ذكرته لك كسر الهاء إتباعا على قاعدته ووصلها بياء. وأشم الدال إشارة إلى أصلها في الحركة.
والإشمام هنا عبارة عن ضم الشفتين من غير نطق، ولهذا يختص به البصير دون الأعمى، هكذا قرره القراء وفيه نظر، لأن الإشمام المشار إليه إنما يتحقق عند الوقف على آخر الكلمة فلا يليق إلا بأن يكون إشارة إلى حركة الحرف الأخير المرفوع إذا وقف عليه نحو: "جاء الرجل"، وهكذا ذكره النحويون. وأما كونه يؤتى به في وسط الكلمة فلا يتصور إلا أن يقف المتكلم على ذلك الساكن ثم ينطق بباقي الكلمة. وإذا جربت نطقك في هذا الحرف الكريم وجدت الأمر كذلك، لا تنطق بالدال ساكنة مشيرا إلى ضمها إلا حتى تقف عليها، ثم تأتي بباقي الكلمة.
فإن قلت: إنما أتي بالإشارة إلى الضمة بعد فراغي من الكلمة بأسرها. قيل لك: فأتت الدلالة على تعيين ذلك الحرف المشار إلى حركته. ويمكن أن يجاب عن هذا بأنه ليس في الكلمة ما يصلح أن يشار إلى حركته إلا الدال. وقد تقدم في "يوسف" أن الإشمام في لا تأمنا إذا فسرناه بالإشارة إلى الضمة: منهم من يفعله قبل كمال الإدغام، ومنهم من يفعله بعده، وهذا نظيره. وتقدم أن الإشمام يقع بإزاء معان أربعة تقدم تحقيقها.
[ ص: 439 ] و من لدنه متعلق ب "لينذر". ويجوز تعلقه بمحذوف نعتا ل "بأسا" ويجوز أن يكون حالا من الضمير في "شديدا".
وقرئ: "ويبشر" بالرفع على الاستئناف.