والفاء في "فنصف" جواب الشرط، فالجملة في محل جزم جوابا للشرط، وارتفاع "نصف" على أحد وجهين: إما الابتداء والخبر حينئذ محذوف، وإن شئت قدرته قبله، أي: فعليكم أو فلهن نصف، وإن شئت بعده أي: فنصف ما فرضتم عليكم - أو لهن - وإما على خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالواجب نصف.
وقرأ فرقة: "فنصف" بالنصب على تقدير: "فادفعوا أو أدوا". وقال ولو قرئ بالنصب لكان وجهه "فأدوا نصف" فكأنه لم يطلع عليها قراءة مروية. أبو البقاء:
والجمهور على كسر نون "نصف". وقرأ زيد وعلي، ورواها [ ص: 492 ] قراءة عن الأصمعي "فنصف" بضم النون هنا وفي جميع القرآن، وهما لغتان. وفيه لغة ثالثة: "نصيف" بزيادة ياء، ومنه الحديث: أبي عمرو: و "ما" في "ما فرضتم" بمعنى الذي، والعائد محذوف لاستكمال الشروط، ويضعف جعلها نكرة موصوفة. "ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"
قوله: "إلا أن يعفون" في هذا الاستثناء وجهان، أحدهما: أن يكون استثناء منقطعا، قال وغيره: "لأن عفوهن عن النصف ليس من جنس أخذهن". والثاني: أنه متصل، لكنه من الأحوال، لأن قوله: ابن عطية "فنصف ما فرضتم" معناه: فالواجب عليكم نصف ما فرضتم في كل حال إلا في حال عفوهن، فإنه لا يجب، وإليه نحا وهذا ظاهر، ونظيره: "لتأتنني به إلا أن يحاط بكم". قال الشيخ: "إلا أن من منع أن تقع أن وصلتها حالا أبو البقاء، فإنه يمنع ذلك، ويكون حينئذ منقطعا". كسيبويه
وقرأ "يعفونه" بهاء مضمومة، وفيها وجهان، أحدهما: أنها ضمير يعود على النصف. والأصل: إلا أن يعفون عنه، فحذف حرف الجر، فاتصل الضمير بالفعل. والثاني: أنها هاء السكت والاستراحة، وإنما ضمها تشبيها بهاء الضمير كقول الآخر: الحسن
[ ص: 493 ]
1005 - هم الفاعلون الخير والآمرونه ... ... ... ...
على أحد التأويلين في البيت أيضا.
وقرأ ابن أبي إسحاق: "تعفون" بتاء الخطاب، ووجهها الالتفات من ضمير الغيبة إلى الخطاب، وفائدة هذا الالتفات التحضيض على عفوهن وأنه مندوب.
و "يعفون" منصوب بأن تقديرا فإنه مبني لاتصاله بنون الإناث. هذا رأي الجمهور. وأما ابن درستويه والسهيلي فإنه عندهما معرب. وقد فرق الزمخشري بين قولك: "الرجال يعفون" و "النساء يعفون" وإن كان هذا من واضحات النحو: بأن قولك "الرجال يعفون": الواو فيه ضمير جماعة الذكور وحذفت قبلها واو أخرى هي لام الكلمة، فإن الأصل: يعفوون فاستثقلت الضمة على الواو الأولى فحذفت فبقيت ساكنة، وبعدها واو الضمير أيضا ساكنة، فحذفت الواو الأولى لئلا يتلقى ساكنان، فوزنه يفعون والنون علامة الرفع فإنه من الأمثلة الخمسة. وأن قولك: "النساء يعفون" الواو لام الكلمة والنون ضمير جماعة الإناث، والفعل معها مبني لا يظهر للعامل فيه أثر. وقد ناقش الشيخ وأبو البقاء بأن هذا من الواضحات التي بأدنى قراءة في هذا العلم تعرف، وبأنه لم يبين حذف الواو من قولك "الرجال يعفون" وأنه لم يذكر خلافا في بناء المضارع المتصل بنون الإناث، وكل هذا سهل لا ينبغي أن يناقش بمثله. الزمخشري
قوله: "أو يعفو الذي"" أو" هنا فيها وجهان، أحدهما: هي للتنويع. والثاني: أنها للتخيير. والمشهور فتح الواو عطفا على المنصوب قبله. وقرأ [ ص: 494 ] بسكونها، استثقل الفتحة على الواو فقدرها كما يقدرها في الألف، وسائر الحسن العرب على استخفافها، ولا يجوز تقديرها إلا في ضرورة كقوله - هو عامر بن الطفيل -:
1006 - فما سودتني عامر عن وراثة أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
والمراد بقوله: "الذي بيده عقدة النكاح" قيل: الزوج. وقيل: الولي، وأل في النكاح للعهد، وقيل بدل من الإضافة، أي: نكاحه كقوله:
1007 - لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم من الجود، والأحلام غير عوازب
قوله: "وأن تعفوا أقرب"" أن تعفوا" في محل رفع بالابتداء لأنه في تأويل "عفوكم"، و "أقرب" خبره. وقرأ الجمهور "تعفوا" بالخطاب، والمراد الرجال والنساء، فغلب المذكر، والظاهر أنه للأزواج خاصة، لأنهم المخاطبون في صدر الآية، وعلى هذا فيكون التفاتا من غائب، وهو قوله: "الذي بيده عقدة النكاح" - على قولنا أن المراد به الزوج وهو المختار - إلى الخطاب الأول في صدر الآية. وقرأ [ ص: 496 ] الشعبي وأبو نهيك: "يعفوا" بياء من تحت. قال الشيخ: "جعله غائبا، وجمع على معنى: "الذي بيده عقدة النكاح" لأنه للجنس لا يراد به واحد" يعني أن قوله: "وأن يعفوا" أصله "يعفوون" فلما دخل الناصب حذفت نون الرفع ثم حذفت الواو التي هي لام الكلمة، وهذه الياء فيه هي ضمير الجماعة، جمع على معنى الموصول، لأنه وإن كان مفردا لفظا فهو مجموع في المعنى لأنه جنس. ويظهر فيه وجه آخر، وهو أن تكون الواو لام الكلمة، وفي هذا الفصل ضمير مفرد يعود على الذي بيده عقدة النكاح، إلا أنه قدر الفتحة في الواو استثقالا كما تقدم في قراءة تقديره: وأن يعفو الذي بيده عقدة. الحسن،
قوله: "للتقوى" متعلق بأقرب، وهي هنا للتعدية، وقيل: بل هي للتعليل. و "أقرب" تتعدى تارة باللام كهذه الآية، وتارة بإلى كقوله تعالى: "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد". وليست "إلى" بمعنى اللام، وقيل: بل هي بمعناها، وهذا مذهب الكوفيين، أعني التجوز في الحروف. ومعنى اللام و "إلى" في هذا الموضع يتقارب.
وقال "ويجوز في غير القرآن: "أقرب من التقوى وإلى التقوى" إلا أن اللام هنا تدل على معنى غير معنى "إلى" وغير معنى "من"، فمعنى اللام: العفو أقرب من أجل التقوى، واللام تدل على علة قرب العفو، وإذا قلت: أقرب إلى التقوى كان المعنى: يقارب التقوى، كما تقول: [ ص: 497 ] أنت أقرب إلي، و "أقرب من التقوى" يقتضي أن يكون العفو والتقوى قريبين، ولكن العفو أشد قربا من التقوى، وليس معنى الآية على هذا" انتهى. فجعل اللام للعلة لا التعدية، و "إلى" للتعدية. أبو البقاء:
واعلم أن فعل التعجب وأفعل التفضيل يتعديان بالحرف الذي يتعدى به فعلهما قبل أن يكون تعجبا وتفضيلا نحو: "ما أزهدني فيه وهو أزهد فيه"، وإن كان من متعد في الأصل: فإن كان الفعل يفهم علما أو جهلا تعديا بالباء نحو: "هو أعلم بالفقه"، وإن كان لا يفهم ذلك تعديا باللام نحو: "ما أضربك لزيد"، و "أنت أضرب لعمرو" إلا في باب الحب والبغض فإنهما يتعديان إلى المفعول بـ "في" نحو: "ما أحب زيدا في عمرو وأبغضه في خالد، وهو أحب في بكر وأبغض في خالد" وإلى الفاعل المعنوي بـ "إلى" نحو: "زيد أحب إلى عمرو من خالد، وما أحب زيدا إلى عمرو"، أي: إن عمرا يحب زيدا. وهذه قاعدة جليلة قل من يضبطها.
والمفضل عليه في الآية الكريمة محذوف، تقديره: أقرب للتقوى من ترك العفو. والياء في التقوى بدل من واو، وواوها بدل من ياء لأنها من وقيت أقي وقاية، وقد تقدم ذلك أول السورة.
قوله: "ولا تنسوا الفضل" الجمهور على ضم الواو من "تنسوا" لأنها واو ضمير. وقرأ بكسرها تشبيها بواو "لو" كما ضموا الواو من "لو" تشبيها بواو الضمير. وقال ابن يعمر "في واو "تنسوا" من القراءات ووجوهها ما ذكرناه في "اشتروا الضلالة". وكان قد قدم فيها خمس قراءات، فظاهر كلامه عودها كلها إلى هنا، إلا أنه لم ينقل هنا إلا الوجهان اللذان ذكرتهما. أبو البقاء
[ ص: 498 ] وقرأ علي رضي الله عنه: "ولا تناسوا" قال "وهي قراءة متمكنة في المعنى، لأنه موضع تناس لا نسيان، إلا على التشبيه". وقال ابن عطية: على باب المفاعلة، وهي بمعنى المتاركة لا بمعنى السهو، وهو قريب من قول أبو البقاء: ابن عطية.
قوله: "بينكم" فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوب بـ "تنسوا". والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من الفضل أي: كائنا بينكم. والأول أولى لأن النهي عن فعل يكون بينهم أبلغ من فعل لا يكون بينهم.