و "الحي" فيه قولان، أحدهما: أن أصله حيي بياءين من حيي يحيا فهو حي، وهذا واضح، وإليه ذهب والثاني: أن أصله حيو فلامه [ ص: 540 ] واو، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها متطرفة، وهذا لا حاجة إليه وكأن الذي أحوج هذا القائل إلى ادعاء ذلك أن كون العين واللام من واد واحد هو قليل في كلامهم بالنسبة إلى عدم ذلك فيه، ولذلك كتبوا "الحياة" بواو في رسم المصحف العزيز تنبيها على هذا الأصل، ويؤيده "الحيوان" لظهور الواو فيه. ولناصر القول الأول أن يقول: قلبت الياء الثانية واوا تخفيفا، لأنه لما زيد في آخره ألف ونون استثقل المثلان. أبو البقاء.
وفي وزنه أيضا قولان، أحدهما: أنه فعل، والثاني: أنه فيعل فخفف، كما قالوا ميت وهين، والأصل: هين وميت.
والقيوم: فيعول من قام بالأمر يقوم به إذا دبره، قال أمية:
1031 - لم تخلق السماء والنجوم والشمس معها قمر يعوم قدره مهيمن قيوم
والحشر والجنة والنعيم إلا لأمر شأنه عظيم
وقرأ ابن مسعود "القيام"، وقرأ والأعمش: "القيم" وهذا كما يقولون: ديور وديار ودير. ولا يجوز أن يكون وزنه فعولا كـ "سفود" إذ لو كان كذلك لكان لفظه قووما، لأن العين المضاعفة أبدا من جنس الأصلية [ ص: 541 ] كسبوح وقدوس وضراب وقتال، فالزائد من جنس العين، فلما جاء بالياء دون الواو علمنا أن أصله فيعول لا فعول; وعد بعضهم فيعولا من صيغ المبالغة كضروب وضراب. علقمة:
قوله: "لا تأخذه سنة" في هذه الجملة خمسة أوجه، أحدها: أنها في محل رفع خبرا للحي كما تقدم في أحد أوجه رفع الحي. الثاني: أنها خبر عن الله تعالى عند من يجيز تعدد الخبر. الثالث: أنها في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في "القيوم" كأنه قيل: يقوم بأمر الخلق غير غافل، قاله الرابع: أنها استئناف إخبار، أخبر تعالى عن ذاته القديمة بذلك. الخامس: أنها تأكيد للقيوم لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيوما، قاله أبو البقاء. فعلى قوله إنها تأكيد يجوز أن يكون محلها النصب على الحال المؤكدة، ويجوز أن تكون استئنافا وفيها معنى التأكيد فتصير الأوجه أربعة. الزمخشري،
والسنة: النعاس، وهو ما يتقدم النوم من الفتور، قال عدي بن الرقاع:
1032 - وسنان أقصده النعاس فرنقت في عينه سنة وليس بنائم
[ ص: 542 ] وكررت "لا" في قوله: "ولا نوم" تأكيدا، وفائدتها انتفاء كل واحد منهما، ولو لم تذكر لاحتمل نفيهما بقيد الاجتماع، ولا يلزم منه نفي كل واحد منهما على حدته، ولذلك تقول: "ما قام زيد وعمرو بل أحدهما"، ولو قلت: "ما قام زيد ولا عمرو بل أحدهما" لم يصح، والمعنى: لا يغفل عن شيء دقيق ولا جليل، فعبر بذلك عن الغفلة، لأنه سببها، فأطلق اسم السبب على مسببه.
قوله: "له ما في السماوات" هي كالتي قبلها إلا في كونها تأكيدا و "ما" للشمول. واللام في "له" للملك، وكرر "ما" تأكيدا، وذكر هنا المظروف دون الظرف لأن المقصود نفي الإلهية عن غير الله تعالى، وأنه لا ينبغي أن يعبد إلا هو، لأن ما عبد من دونه في السماء كالشمس والقمر والنجوم أو في الأرض كالأصنام وبعض بني آدم، فكلهم ملكه تعالى تحت قهره، واستغنى عن ذكر أن السماوات والأرض ملك له بذكره قبل ذلك أنه خالق السماوات والأرض.
قوله: "من ذا الذي يشفع عنده" كقوله: "من ذا الذي يقرض" و "من" وإن كان لفظها استفهاما فمعناه النفي، ولذلك دخلت "إلا" في قوله "إلا بإذنه".
و "عنده" فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بيشفع. والثاني: أنه متعلق بمحذوف لكونه [حالا] من الضمير في "يشفع" أي يشفع مستقرا عنده، وقوي هذا الوجه بأنه إذا لم يشفع عنده من هو عنده وقريب منه فشفاعة غيره أبعد. وضعف بعضهم الحالية بأن المعنى: يشفع إليه.
[ ص: 543 ] و "إلا بإذنه" متعلق بمحذوف، لأنه حال من فاعل "يشفع" فهو استثناء مفرغ، والباء للمصاحبة، والمعنى: لا أحد يشفع عنده إلا مأذونا له منه، ويجوز أن يكون مفعولا به أي: بإذنه يشفعون كما تقول: "ضرب بسيفه" أي هو آلة للضرب، والباء للتعدية.
و "يعلم" هذه الجملة يجوز أن تكون خبرا لأحد المبتدأين المتقدمين أو استئنافا أو حالا. والضمير في "أيديهم" و "خلفهم" يعود على "ما" في قوله: "له ما في السماوات وما في الأرض" إلا أنه غلب من يعقل على غيره. وقيل: يعود على العقلاء ممن تضمنه لفظ "ما" دون غيرهم. وقيل: يعود على ما دل عليه "من ذا" من الملائكة والأنبياء. وقيل: من الملائكة خاصة.
قوله: "بشيء" متعلق بيحيطون. والعلم هنا بمعنى المعلوم لأن علمه تعالى الذي هو صفة قائمة بذاته المقدسة لا يتبعض، ومن وقوع العلم موقع المعلوم قولهم: "اللهم اغفر لنا علمك فينا" وحديث موسى والخضر عليهما السلام "ما نقص علمي وعلمك من علمه إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر" ولكون العلم بمعنى المعلوم صح دخول التبعيض، والاستثناء عليه. و "من علمه" يجوز أن يتعلق بيحيطون، وأن يتعلق بمحذوف لأنه صفة لشيء، فيكون في محل جر. و "بما شاء" متعلق بيحيطون أيضا، ولا يضر تعلق هذين الحرفين المتحدين لفظا ومعنى بعامل واحد; لأن الثاني ومجروره بدلان من الأولين بإعادة العامل بطريق الاستثناء، كقولك: "ما مررت بأحد إلا بزيد" ومفعول "شاء" محذوف تقديره: إلا بما شاء أن يحيطوا به، وإنما قدرته كذلك لدلالة قوله: "ولا يحيطون بشيء من علمه".
[ ص: 544 ] قوله: "وسع كرسيه" الجمهور على "وسع" بفتح الواو وكسر السين وفتح العين فعلا ماضيا.
و "كرسيه" بالرفع على أنه فاعله، وقرئ "وسع" سكن عين الفعل تخفيفا نحو: علم في علم. وقرئ أيضا: "وسع كرسيه" بفتح الواو وسكون السين ورفع العين على الابتداء، "كرسيه" خفض بالإضافة، "السماوات" رفعا على أنه خبر للمبتدأ.
والكرسي الياء فيه لغير النسب واشتقاقه من الكرس وهو الجمع، ومنه الكراسة للصحائف الجامعة للعلم، ومنه قول العجاج:
1033 - يا صاح هل تعرف رسما مكرسا قال نعم أعرفه وأبلسا
1034 - قد علم القدوس مولى القدس أن أبا العباس أولى نفس
في معدن الملك القديم الكرسي ... ... ... ...
[ ص: 545 ]
1035 - يحف بهم بيض الوجوه وعصبة كراسي بالأحداث حين تنوب
1036 - ما لي بأمرك كرسي أكاتمه ولا بكرسي - علم الله - مخلوق
قوله: "ولا يئوده" يقال: آده كذا أي: أثقله ولحقه منه مشقة، قال:
1037 - ألا ما لسلمى اليوم بت جديدها وضنت وما كان النوال يؤودها
وقرئ "يوده" بحذف الهمزة، كما تحذف همزة "أناس"، وقرئ "يووده" بإبدال الهمزة واوا.
و "حفظ" مصدر مضاف لمفعوله، أي لا يؤوده أن يحفظهما.
و "العلي" أصله: عليو فأدغم نحو: ميت، لأنه من علا يعلو، قال:
1038 - فلما علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر وكاسر
[ ص: 546 ]
1039 - فكأن الخمر العتيق من الإسـ ـفنط ممزوجة بماء زلال
قال "فإن قلت: كيف ترتبت الجمل في آية الكرسي من غير حرف عطف؟ قلت: ما منها جملة إلا وهي واردة على سبيل البيان لما ترتبت عليه، والبيان متحد بالمبين، فلو توسط بينهما عاطف لكان كما تقول الزمخشري: العرب: "بين العصا ولحائها" فالأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمنا عليه غير ساه عنه، والثانية لكونه مالكا لما يدبره، والثالثة لكبرياء شأنه، والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم، المستوجب للشفاعة وغير المرتضى، والخامسة لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها أو لجلاله وعظم قدرته" انتهى. يعني غالب الجمل وإلا فبعض الجمل فيها معطوفة وهي قوله: "ولا يحيطون" وقوله "ولا يئوده" وقوله: "وهو العلي العظيم".