قوله: "ابتغاء" فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعول من أجله، وشروط النصب متوفرة. والثاني: أنه حال، و "تثبيتا" عطف عليه بالاعتبارين: أي لأجل الابتغاء والتثبيت، أو مبتغين متثبتين. ومنع أن يكون "ابتغاء" مفعولا من أجله، قال: "لأنه عطف عليه "تثبيتا"، وتثبيتا لا يصح أن يكون مفعولا من أجله، لأن الإنفاق لا يكون لأجل التثبيت، وحكى عن ابن عطية كونه مفعولا من أجله، قال: "وهو مردود بما بيناه". مكي
وهذا الذي رده لا بد فيه من تفصيل، وذلك أن قوله: "وتثبيتا" إما أن يجعل مصدرا متعديا أو قاصرا، فإن كان قاصرا، أو متعديا وقدرنا المفعول هكذا: "وتثبيتا من أنفسهم الثواب على تلك النفقة"، فيكون تثبيت الثواب وتحصيله من الله حاملا لهم على النفقة، وحينئذ يصح أن يكون "تثبيتا" [ ص: 590 ] مفعولا من أجله، وإن قدرنا المفعول غير ذلك، أي: وتثبيتا من أنفسهم أعمالهم بإخلاص النية، أو جعلنا "من أنفسهم" هو المفعول في المعنى، وأن "من" بمعنى اللام أي: لأنفسهم، كما تقول: "فعلته كسرا من شهوتي" فلا يتضح فيه أن يكون مفعولا من أجله.
قد قدر المفعول المحذوف "أعمالهم بإخلاص النية"، وجوز أيضا أن يكون "من أنفسهم" مفعولا، وأن [تكون] "من" بمعنى اللام، وكان قدم أولا أنه يجوز فيهما المفعول من أجله والحالية، وهو غير واضح كما تقدم. وأبو البقاء
وتلخص أن في "من أنفسهم" قولين، أحدهما: أنه مفعول بالتجوز في الحرف، والثاني: أنه صفة لـ "تثبيتا"، فهو متعلق بمحذوف، وتلخص أيضا أن التثبيت يجوز أن يكون متعديا، وكيف يقدر مفعوله، وأن يكون قاصرا.
فإن قيل: "تثبيت" مصدر ثبت وثبت متعد، فكيف يكون مصدره لازما؟ فالجواب أن التثبيت مصدر تثبت فهو واقع موقع التثبت، والمصادر تنوب عن بعضها. قال تعالى: "وتبتل إليه تبتيلا" والأصل: "تبتلا" ويؤيد ذلك قراءة من قرأ: "وتثبتا"، وإلى هذا نحا قال الشيخ: "ورد هذا القول بأن ذلك لا يكون إلا مع الإفصاح بالفعل المتقدم على المصدر، نحو الآية، وأما أن يؤتى بالمصدر من غير نيابة على فعل مذكور فلا يحمل [ ص: 591 ] على غير فعله الذي هو له في الأصل" ثم قال: "والذي نقول: إن ثبت - يعني مخففا - فعل لازم معناه تمكن ورسخ، وثبت معدى بالتضعيف، ومعناه مكن وحقق. قال أبو البقاء. ابن رواحة:
1067 - فثبت الله ما أتاك من حسن تثبيت عيسى ونصرا كالذي نصروا
فإذا كان التثبيت مسندا إليهم كانت "من" في موضع نصب متعلقة بنفس المصدر، وتكون للتبعيض، مثلها في "هز من عطفه" و "حرك من نشاطه" وإن كان مسندا في المعنى إلى أنفسهم كانت "من" أيضا في موضع نصب صفة لـ تثبيتا".قال "فإن قلت: فما معنى التبعيض؟ قلت: معناه أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل روحه وماله معا فقد ثبت نفسه كلها". قال الشيخ: "والظاهر أن نفسه هي التي تثبته وتحمله على الإنفاق في سبيل الله ليس له محرك إلا هي، لما اعتقدته من الإيمان والثواب" يعني فيترجح أن التثبيت مسند في المعنى إلى أنفسهم". الزمخشري:
قوله: "بربوة" في محل جر لأنه صفة لجنة. والباء ظرفية بمعنى "في" أي جنة كائنة في ربوة. والربوة: أرض مرتفعة طيبة، قاله وهي مشتقة من ربا يربو أي: ارتفع، وتفسير الخليل. لها بما انخفض من الأرض ليس بشيء. ويقال: ربوة ورباوة بتثليث الراء فيهما، ويقال أيضا: رابية، قال: السدي
[ ص: 592 ]
1068 - وغيث من الوسمي حو تلاعه أجابت روابيه النجاء هواطله
قوله: "أصابها وابل" هذه الجملة فيها أربعة أوجه، أحدها: أنها صفة ثانية لـ جنة، وبدئ هنا بالوصف بالجار والمجرور ثم بالجملة، لأنه الأكثر في لسانهم لقربه من المفرد، وبدئ بالوصف الثابت المستقر وهو كونها بربوة، ثم بالعارض وهو إصابة الوابل. وجاء قوله في وصف الصفوان - وصفه بقوله: "عليه تراب" - ثم عطف على الصفة "فأصابه وابل" وهنا لم يعطف بل أخرج صفة.
والثاني: أن تكون صفة لـ "ربوة"، قال "لأن الجنة بعض الربوة" كأنه يعني أنه يلزم من وصف الربوة بالإصابة وصف الجنة به. الثالث: أن تكون حالا من الضمير المستكن في الجار لوقوعه صفة. الرابع: أن تكون حالا من "جنة"، وجاز ذلك لأن النكرة قد تخصصت بالوصف، ولا بد من تقدير "قد" حينئذ، أي: وقد أصابها. أبو البقاء:
قوله: "فآتت أكلها" فيه ثلاثة أوجه، أحدها: وهو الأصح أن "آتت" [ ص: 593 ] تتعدى لاثنين، حذف أولهما وهو "صاحبها" أو "أهلها". والذي حسن حذفه أن القصد الإخبار عما تثمر لا عمن تثمر له، ولأنه مقدر في قوله: "كمثل جنة" أي غارس جنة أو صاحب جنة، كما تقدم. و "أكلها" هو المفعول الثاني. و "ضعفين" نصب على الحال من "أكلها". والثاني: أن "ضعفين" هو المفعول الثاني، وهذا سهو من قائله وغلط. والثالث: أن "آتت" هنا بمعنى أخرجت، فهو متعد لمفعول واحد. قال "لأن معنى "آتت": أخرجت، وهو من الإتاء، وهو الريع" قال الشيخ: "لا نعلم ذلك في لسان أبو البقاء: العرب". ونسبة الإيتاء إليها مجاز.
وقرأ نافع وابن كثير "أكلها" بضم الهمزة وسكون الكاف، وهكذا كل ما أضيف من هذا إلى مؤنث، إلا وأبو عمرو فإنه يثقل ما أضيف إلى غير ضمير أو إلى ضمير المذكر، والباقون بالتثقيل مطلقا، وسيأتي إيضاح هذا كله. والأكل بالضم: الشيء المأكول، وبالفتح مصدر، وأضيف إلى الجنة لأنها محله أو سببه. أبا عمرو
قوله: "فطل" الفاء جواب الشرط، ولا بد من حذف بعدها لتكمل جملة الجواب. واختلف في ذلك على ثلاثة أوجه، فذهب إلى أن المحذوف خبر، وقوله: المبرد "فطل" مبتدأ، والتقدير: "فطل يصيبها". وجاز الابتداء هنا بالنكرة لأنها في جواب الشرط، وهو من جملة المسوغات للابتداء بالنكرة، ومن كلامهم: "إن ذهب عير فعير في الرباط". والثاني: أنه خبر مبتدأ [ ص: 594 ] مضمر، أي: فالذي يصيبها طل. والثالث: أنه فاعل بفعل مضمر تقديره: فيصيبها طل، وهذا أبينها.
إلا أن الشيخ قال: - بعد ذكر الثلاثة الأوجه - "والأخير يحتاج فيه إلى حذف الجملة الواقعة جوابا وإبقاء معمول لبعضها، لأنه متى دخلت الفاء على المضارع فإنما هو على إضمار مبتدأ كقوله: "ومن عاد فينتقم الله منه" أي: فهو ينتقم، فلذلك يحتاج إلى هذا التقدير هنا، أي: فهي، أي: الجنة يصيبها طل، وأما في التقديرين السابقين فلا يحتاج إلا إلى حذف أحد جزأي الجملة" وفيما قاله نظر، لأنا لا نسلم أن المضارع بعد الفاء الواقعة جوابا يحتاج إلى إضمار مبتدأ.
ونظير الآية قول امرئ القيس:
1069 - ألا إن لا تكن إبل فمعزى كأن قرون جلتها العصي
وادعى بعضهم أن في هذه الآية تقديما وتأخيرا، والأصل: "أصابها وابل، فإن لم يصبها وابل فطل فآتت أكلها ضعفين" حتى يجعل إيتاؤها الأكل ضعفين على الحالين من الوابل والطل، وهذا لا حاجة إليه لاستقامة المعنى بدونه، والأصل عدم التقديم والتأخير، حتى يخصه بعضهم بالضرورة.
والطل: المستدق من القطر. وقال "هو الندى" وهذا تجوز منه. ويقال: طله الندى، وأطله أيضا، قال: مجاهد:
[ ص: 595 ]
1070 - ولما نزلنا منزلا طله الندى ... ... ... ...
ويجمع "طل" على طلال.
قوله: "والله بما تعملون بصير" قراءة الجمهور: "تعلمون" خطابا وهو واضح، فإنه من الالتفات من الغيبة إلى الخطاب الباعث على فعل الإنفاق الخالص لوجه الله والزاجر عن الرياء والسمعة. بالياء على الغيبة، ويحتمل وجهين، أحدهما: أن يعود على المنفقين، والثاني: أن يكون عاما فلا يخص المنفقين، بل يعود على الناس أجمعين، ليندرج فيهم المنفقون اندراجا أوليا. والزهري