"يا" حرف نداء وهي أم الباب، وزعم بعضهم أنها اسم فعل، وقد تحذف نحو: يوسف [ ص: 185 ] أعرض وينادى بها المندوب والمستغاث، قال الشيخ: "وعلى كثرة وقوع النداء في القرآن لم يقع نداء إلا بها".
قلت: زعم بعضهم أن قراءة: أمن هو قانت بتخفيف الميم أن الهمزة فيه للنداء وهو غريب.
وقد يراد بها مجرد التنبيه فيليها الجمل الاسمية والفعلية، قال تعالى: ألا يسجدوا بتخفيف (ألا)، وقال الشاعر:
256 - ألا يا اسقياني قبل غارة سنجال . . . . . . . . . . . .
وقال الآخر:
257 - يا لعنة الله والأقوام كلهم والصالحين على سمعان من جار
و"أي" اسم منادى في محل نصب، ولكنه بني على الضم؛ لأنه مفرد معرفة.
وزعم أنها هنا موصولة، وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ مضمر، والجملة صلة، والتقدير: يا الذين هم الناس، والصحيح الأول، والمرفوع بعدها صفة لها يلزم رفعه، ولا يجوز نصبه على المحل، خلافا الأخفش للمازني، و"ها" زائدة للتنبيه لازمة لها، والمشهور فتح هائها.
ويجوز [ ص: 186 ] ضمها إتباعا للياء، وقد قرأ عامر بذلك في بعض المواضع نحو: أيه المؤمنون والمرسوم يساعده.
ولا يجوز وصف "أي" هذه إلا بما فيه الألف واللام، أو بموصول هما فيه، أو باسم إشارة نحو: يا أيها الذي نزل عليه الذكر وقال الشاعر:
258 - ألا أيهذا النابح السيد إنني على نأيها مستبسل من ورائها
ولـ"أي" معان أخر كالاستفهام والشرط وكونها موصولة ونكرة موصوفة وصفة لنكرة وحالا لمعرفة.
و"الناس" صفة لـ(أي)، أو خبر مبتدأ محذوف حسبما تقدم من الخلاف.
و"اعبدوا ربكم" جملة أمرية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية.
قوله تعالى: الذي خلقكم فيه ثلاثة أوجه:
أظهرها: نصبه على النعت لـ(ربكم).
الثاني: نصبه على القطع.
الثالث: رفعه على القطع أيضا، وقد تقدم معناه.
قوله تعالى: والذين من قبلكم محله النصب لعطفه على المنصوب في "خلقكم"، و"من قبلكم" صلة الذين، فيتعلق بمحذوف على ما تقرر، و"من" لابتداء الغاية.
واستشكل بعضهم وقوع "من قبلكم" صلة من حيث [ ص: 187 ] إن كل ما جاز أن يخبر به جاز أن يقع صلة، و"من قبلكم" ناقص ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدة إلا بتأويل، فكذلك الصلة، قال: "وتأويله أن ظرف الزمان إذا وصف صح الإخبار والوصل به تقول: نحن في يوم طيب، فيكون التقدير هنا - والله أعلم - : والذين كانوا من زمان قبل زمانكم".
وقال : "التقدير: والذين خلقهم من قبل خلقكم، فحذف الخلق وأقام الضمير مقامه". أبو البقاء
وقرأ "والذين من قبلكم" بفتح الميم. زيد بن علي:
قال : ووجهها على إشكالها أن يقال: أقحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيدا، كما أقحم الزمخشري جرير في قوله:
259 - يا تيم تيم عدي لا أبا لكم . . . . . . . . . . . . . . . .
تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه، وكإقحامهم لام الإضافة بين المضاف والمضاف إليه في نحو: لا أبا لك، قيل: "هذا الذي قاله مذهب لبعضهم ومنه قوله:
260 - من النفر اللاء الذين إذا هم يهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا
[ ص: 188 ] فإذا وجوابها صلة "اللاء"، ولا صلة للذين؛ لأنه توكيد للأول.
إلا أن بعضهم يرد هذا القول ويجعله فاسدا من جهة أنه لا يؤكد الحرف إلا بإعادة ما اتصل به فالموصول أولى بذلك، وخرج الآية والبيت على أن "من قبلكم" صلة للموصول الثاني، والموصول الثاني وصلته خبر لمبتدأ محذوف، والمبتدأ وخبره صلة الأول، والتقدير: والذين هم قبلكم، وكذا البيت، تجعل "إذا" وجوابها صلة للذين، والذين خبر لمبتدأ محذوف، وذلك المبتدأ وخبره صلة للاء، ولا يخفى ما في هذا من التعسف.
والخلق يقال باعتبارين، أحدهما: الإبداع والاختراع، وهذه الصفة ينفرد بها الباري تعالى.
والثاني: التقدير: قال زهير:
261 - ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ـض القوم يخلق ثم لا يفري
وقال "ما خلقت إلا فريت ولا وعدت إلا وفيت ". الحجاج:
وهذه الصفة لا يختص بها الله تعالى، وقد غلط أبو عبد الله البصري في أنه لا يطلق اسم الخالق على الله تعالى، قال: لأنه محال، وذلك أن التقدير والتسوية في حق الله تعالى ممتنعان، لأنهما عبارة عن التفكر والظن، وكأنه لم يسمع قوله تعالى: هو الله الخالق البارئ الله خالق كل [ ص: 189 ] شيء .
وكأنه لم يعلم أن الخلق يكون عبارة عن الإنشاء والاختراع.
قوله تعالى: لعلكم تتقون لعل واسمها وخبرها، وإذا ورد ذلك في كلام الله تعالى فللناس فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن "لعل" على بابها من الترجي والإطماع، ولكن بالنسبة إلى المخاطبين، أي: لعلكم تتقون على رجائكم وطمعكم، وكذا قال في قوله تعالى: سيبويه لعله يتذكر أي: اذهبا على رجائكما.
والثاني: أنها للتعليل، أي اعبدوا ربكم لكي تتقوا، وبه قال قطرب وغيرهما وأنشدوا: والطبري
262 - وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كلمع سراب في الملا متألق
أي: لكي نكف الحرب، ولو كانت "لعل" للترجي لم يقل: ووثقتم لنا كل موثق.
والثالث: أنها للتعرض للشيء، كأنه قيل: افعلوا ذلك متعرضين لأن تتقوا.
وهذه الجملة على كل قول متعلقة من جهة المعنى بـ(اعبدوا) أي: اعبدوه على رجائكم التقوى، أو لتتقوا، أو متعرضين للتقوى، وإليه مال المهدوي . وأبو البقاء
وقال : يتجه تعلقها بـ"خلقكم "، أن كل مولود يولد على الفطرة فهو بحيث يرجى أن يكون متقيا، إلا أن المهدوي منع من ذلك، قال: [ ص: 190 ] "لأن من ذرأه الله لجهنم لم يخلقه ليتقي" ولم يذكر ابن عطية غير تعلقها بـ "خلقكم"، ثم رتب على ذلك سؤالين: الزمخشري
أحدهما: أنه كما خلق المخاطبين لعلهم يتقون كذلك خلق الذين من قبلهم لذلك، فلم خص المخاطبين بذلك دون من قبلهم؟ وأجاب عنه بأنه لم يقصره عليهم بل غلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ، والمعنى على إرادة الجميع.
السؤال الثاني: هلا قيل "تعبدون" لأجل (اعبدوا)، أو اتقوا لمكان "تتقون" ليتجاوب طرفا النظم، وأجاب بأن التقوى ليست غير العبادة، حتى يؤدي ذلك إلى تنافر النظم، وإنما التقوى قصارى أمر العابد وأقصى جهده.
قال الشيخ: "وأما قوله: ليتجاوب طرفا النظم فليس بشيء؛ لأنه لا يمكن هنا تجاوب طرفي النظم، إذ نظم اللفظ: اعبدوا ربكم لعلكم تعبدون، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون، وهذا بعيد في المعنى، إذ هو مثل: اضرب زيدا لعلك تضربه، واقصد خالدا لعلك تقصده، ولا يخفى ما في ذلك من غثاثة اللفظ وفساد المعنى".
والذي يظهر به صحته أن يكون "لعلكم تتقون" متعلقا بقوله: "اعبدوا"، فالذي نودوا لأجله هو الأمر بالعبادة، فناسب أن يتعلق بها ذلك، وأتى بالموصول وصلته على سبيل التوضيح أو المدح الذي تعلقت به العبادة، فلم يجأ بالموصول ليحدث عنه، بل جاء في ضمن المقصود بالعبادة، فلم يكن يتعلق به دون المقصود.
قلت: وهذا واضح.
وفي "لعل" لغات كثيرة، وقد يجر بها، قال:
[ ص: 191 ]
263 - لعل الله فضلكم علينا بشيء أن أمكم شريم
ولا تنصب الاسمين على الصحيح، وقد تدخل "أن" في خبرها حملا على "عسى" ، قال:
264 - لعلك يوما أن تلم ملمة . . . . . . . . . .
وقد تأتي للاستفهام والتعليل كما تقدم، ولكن أصلها أن تكون للترجي والطمع في المحبوبات والإشفاق في المكروهات كعسى، وفيها كلام أطول من هذا يأتي مفصلا في غضون هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وأصل تتقون: توتقيون؛ لأنه من الوقاية، فأبدلت الواو تاء قبل تاء الافتعال، وأدغمت فيها، وقد تقدم ذلك في للمتقين ثم استثقلت الضمة على الياء فقدرت، فسكنت الياء والواو بعدها، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، وضمت القاف لتجانسها، فوزنه الآن: تفتعون.
وهذه الجملة أعني "لعلكم تتقون" لا يجوز أن تكون حالا لأنها طلبية، وإن كانت عبارة بعضهم توهم ذلك، ومفعول تتقون محذوف أي "تتقون" الشرك أو النار.