قوله: "فرهان" فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه مرفوع بفعل محذوف، أي: فيكفي [عن] ذلك رهن مقبوضة. الثاني: أنه مبتدأ والخبر محذوف أي: فرهن مقبوضة تكفي. الثالث: أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالوثيقة أو فالقائم مقام ذلك رهن مقبوضة.
وقرأ ابن كثير "فرهن" بضم الراء والهاء، والباقون "فرهان" بكسر الراء وألف بعد الهاء، روي عن وأبو عمرو: ابن كثير تسكين الهاء في رواية. وأبي عمرو
فأما قراءة فجمع رهن، وفعل يجمع على فعل نحو: سقف وسقف. ووقع في ابن كثير بعد قوله: "وسقف وسقف، وأسد وأسد، وهو [وهم]" ولكنهم قالوا: إن فعلا جمع فعل قليل، وقد أورد منه أبي البقاء ألفاظا منها: رهن ورهن، ولحد القبر ولحد، وقلب النخلة وقلب، ورجل [ ص: 679 ] ثط وقوم ثط، وفرس ورد وخيل ورد، وسهم حشر وسهام حشر. وأنشد الأخفش حجة لقراءته قول أبو عمرو قعنب:
1135 - بانت سعاد وأمسى دونها عدن وغلقت عندها من قبلك الرهن
وقال "وإنما قرأت فرهن للفصل بين الرهان في الخيل وبين جمع "رهن" في غيرها" ومعنى هذا الكلام أنما اخترت هذه القراءة على قراءة "رهان"، لأنه لا يجوز له أن يفعل ذلك كما ذكر دون اتباع رواية. أبو عمرو:واختار قراءته هذه قال: "وهذه القراءة وافقت المصحف، وما وافق المصحف وصح معناه، وقرأت به القراء فهو المختار". قلت: إن الرسم الكريم "فرهن" دون ألف بعد الهاء، مع أن الزجاج يقول: "إن فعلا جمع فعل قليل"، وحكي عن الزجاج أنه قال: "لا أعرف الرهان إلا في الخيل لا غير". وقال أبي عمرو "الرهن والرهان عربيان، والرهن في الرهن أكثر، والرهان في الخيل أكثر" وأنشدوا أيضا على رهن ورهن قوله - البيت -: يونس:
1136 - آليت لا نعطيه من أبنائنا رهنا فيفسدهم كرهن أفسدا
وأما قراءة الباقين "رهان" فرهان جمع "رهن" وفعل وفعال مطرد كثير نحو: كعب وكعاب، وكلب وكلاب، ومن سكن ضمة الهاء في "رهن" فللتخفيف وهي لغة، يقولون: سقف في سقف جمع سقف.
والرهن في الأصل مصدر رهنت، يقال: رهنت زيدا ثوبا أرهنه رهنا أي: دفعته إليه رهنا عنده، قال:
1137 - يراهنني فيرهنني بنيه وأرهنه بني بما أقول
1138 - فلما خشيت أظافيرهم نجوت وأرهنتهم مالكا
[ ص: 681 ] وقيل: أرهن في السلعة إذا غالى فيها حتى أخذها بكثير الثمن ومنه قوله:
1139 - يطوي ابن سلمى بها من راكب بعدا عيدية أرهنت فيها الدنانير
... ... ... ... ... ... ... ...
ثم أطلق الرهن على المرهون من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول نحو قوله تعالى: "هذا خلق الله"، و "درهم ضرب الأمير"، فإذا قلت: "رهنت زيدا ثوبا رهنا" فرهنا هنا مصدر فقط، وإذا قلت "رهنت زيدا رهنا" فهو هنا مفعول به لأن المراد به المرهون، ويحتمل أن يكون هنا "رهنا" مصدرا مؤكدا أيضا، ولم يذكر المفعول الثاني اقتصارا كقوله: "ولسوف يعطيك ربك".
و "رهن" مما استغني فيه بجمع كثرته عن جمع قلته، وذلك أن قياسه في القلة أفعل كفلس وأفلس، فاستغني برهن ورهان عن أرهن.
وأصل الرهن: الثبوت والاستقرار، يقال: رهن الشيء، فهو راهن إذا دام واستقر، ونعمة راهنة أي دائمة ثابتة. وأنشد ابن السكيت:
[ ص: 682 ]
1140 - لا يستفيقون منها وهي راهنة إلا بهات وإن علوا وإن نهلوا
1141 - الخبز واللحم لهم راهن ... ... ... ...
أي: دائم مستقر، ومنه سمي المرهون "رهنا" لدوامه واستقراره عند المرتهن.
وقوله: "ولم تجدوا كاتبا" في هذه الجملة ثلاثة أوجه، أحدها: أنها عطف على فعل الشرط أي: "وإن كنتم ولم تجدوا" فتكون في محل جزم لعطفها على ما هو مجزوم تقديرا. والثاني: أن تكون معطوفة على خبر كان، أي: وإن كنتم لم تجدوا [كاتبا] والثالث: أن تكون الواو للحال، والجملة بعدها نصب على الحال فهي على هذين الوجهين الأخيرين في محل نصب.
قوله: "فإن أمن" قرأ فيما نقله عنه أبي "أومن" مبنيا للمفعول. قال الزمخشري "أي أمنه الناس ووصفوا المديون بالأمانة والوفاء". قلت: وعلام تنتصب" بعضا؟ والظاهر نصبه بإسقاط الخافض على حذف مضاف أي: فإن أومن بعضكم على متاع بعض أو على دين بعض. الزمخشري:
قوله: "فليؤد الذي اؤتمن" إذا وقف على "الذي" وابتدئ بما بعدها قيل: "اوتمن" بهمزة مضمومة بعدها واو ساكنة، وذلك لأن أصله اأتمن، مثل [ ص: 683 ] اقتدر بهمزتين: الأولى للوصل والثانية فاء الكلمة، ووقعت الثانية ساكنة بعد أخرى مثلها مضمومة وجب قلب الثانية لمجانس حركة الأولى فقلت: اوتمن. فأما في الدرج فتذهب همزة الوصل فتعود الهمزة إلى حالها لزوال موجب قلبها واوا بل تقلب ياء صريحة في الوصل في رواية ورش والسوسي.
وروي عن "الذي اوتمن" برفع الألف ويشير بالضمة إلى الهمزة، قال عاصم: "وهذه الترجمة غلط". وروى ابن مجاهد: سليم عن إشمام الهمزة الضم، وفي الإشارة والإشمام المذكورين نظر. وقرأ حمزة أيضا في شاذه: "الذتمن" بإدغام الياء المبدلة من الهمزة في تاء الافتعال، قال عاصم "قياسا على "اتسر" في الافتعال من اليسر، وليس بصحيح لأن الياء منقلبة عن الهمزة فهي في حكم الهمزة، واتزر عامي، وكذلك "ريا" في "رؤيا" قال الشيخ: "وما ذكر الزمخشري: فيه أنه ليس بصحيح وأن "اتزر" عامي - يعني أنه من إحداث العامة لا أصل له في اللغة - قد ذكره غيره أن بعضهم أبدل وأدغم: "اتمن واتزر" وأن ذلك لغة رديئة، وكذلك "ريا" في رؤيا، فهذا التشبيه: إما أن يعود على قوله: "واتزر عامي" فيكون إدغام "ريا" عاميا، وإما أن يعود إلى قوله "فليس بصحيح" أي: وكذلك إدغام "ريا" ليس بصحيح، وقد حكى الزمخشري الإدغام في "ريا". الكسائي
[ ص: 684 ] وقوله: "أمانته" يجوز أن تكون الأمانة بمعنى الشيء المؤتمن عليه فينتصب انتصاب المفعول به بقوله: "فليؤد"، ويجوز أن تكون مصدرا على أصلها، وتكون على حذف مضاف، أي: فليؤد دين أمانته. ولا جائز أن تكون منصوبة على مصدر ائتمن. والضمير في "أمانته" يحتمل أن يعود على صاحب الحق، وأن يعود على الذي ائتمن.
قوله: "فإنه آثم قلبه" في هذا الضمير وجهان، أحدهما: أنه ضمير الشأن والجملة بعده، مفسر له. والثاني: أنه ضمير "من" في قوله: "ومن يكتمها" وهذا هو الظاهر. وأما "آثم قلبه" ففيه أوجه: أظهرها: أن الضمير في "إنه" ضمير "من" و "آثم" خبر إن، و "قلبه" فاعل بـ آثم، نحو قولك: زيد إنه قائم أبوه، وعمل اسم الفاعل هنا واضح لوجود شروط الإعمال. ولا يجيء هذا الوجه على القول بأن الضمير ضمير الشأن، لأن ضمير الشأن لا يفسر إلا بجملة، واسم الفاعل مع فاعله عند البصريين مفرد، والكوفيون يجيزون ذلك.
الثاني: أن يكون "آثم" خبرا مقدما، و "قلبه" مبتدأ مؤخرا، والجملة خبر "إن" ذكر ذلك الزمخشري وغيره، وهذا لا يجوز على أصول الكوفيين; لأنه لا يعود عندهم الضمير المرفوع على متأخر لفظا، و "آثم" قد تحمل ضميرا لأنه وقع خبرا، وعلى هذا الوجه فيجوز أن تكون الهاء ضمير الشأن وأن تكون ضمير "من". وأبو البقاء
والثالث: أن يكون "آثم" خبر إن، وفيه ضمير يعود على ما تعود عليه الهاء في "إنه"، و "قلبه" بدل من ذلك الضمير المستتر بدل بعض من كل.
الرابع: أن يكون "آثم" مبتدأ، و "قلبه" فاعل سد مسد الخبر، والجملة [ ص: 685 ] خبر إن، قاله وهو لا يجوز عند البصريين، لأنه لا يعمل عندهم اسم الفاعل إلا إذا اعتمد على نفي أو استفهام نحو: ما قائم أبواك، وهل قائم أخواك، وما قائم قومك، وهل ضارب إخوتك. وإنما يجوز هذا عند ابن عطية، من الكوفيين الفراء من البصريين، إذ يجيزان: قائم الزيدان وقائم الزيدون، فكذلك في الآية الكريمة. والأخفش
وقرأ "قلبه" بالنصب، نسبها إليه ابن أبي عبلة: وفي نصبه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه بدل من اسم "إن" بدل بعض من كل، ولا محذور في الفصل بالخبر - وهو آثم - بين البدل والمبدل منه، كما لا محذور في الفصل به بين النعت والمنعوت نحو: زيد منطلق العاقل، مع أن العامل في النعت والمنعوت واحد، بخلاف البدل والمبدل منه فإن الصحيح أن العامل في البدل غير العامل في المبدل منه. ابن عطية.
الثاني: أنه منصوب على التشبيه بالمفعول به، كقولك: "مررت برجل حسن وجهه" وفي هذا الوجه خلاف مشهور، وهو ثلاثة مذاهب: الأول مذهب الكوفيين وهو الجواز مطلقا، أعني نظما ونثرا. الثاني: المنع مطلقا، وهو مذهب الثالث: منعه من النثر وجوازه في الشعر، وهو مذهب المبرد. وأنشد سيبويه، على ذلك: الكسائي
[ ص: 686 ]
1142 - أنعتها إني من نعاتها مدارة الأخفاف مجمراتها
غلب الرقاب وعفر نياتها كوم الذرى وادقة سراتها
والثالث: أنه منصوب على التمييز حكاه وغيره، وضعفوه بأن التمييز لا يكون إلا نكرة، وهذا عند البصريين، وأما الكوفيون فلا يشترطون تنكيره، ومنه عندهم: مكي "إلا من سفه نفسه"" بطرت معيشتها" وأنشدوا:
1143 - إلى ردح من الشيزى ملاء لباب البر يلبك بالشهاد
وقرأ "ولا يكتموا" بياء الغيبة، لأن قبله غيبا وهم من ذكر في قوله: أبو عبد الرحمن: "كاتب ولا شهيد"، وهو وإن كان بلفظ الإفراد فالمراد به الجمع، ولذلك اعتبر معناه في قراءة أبي عبد الرحمن فجمع في قوله: "ولا يكتموا".
[ ص: 687 ] وقد اشتملت هذه الآيات على أنواع من البديع منها: التجنيس المغاير في "تداينتم بدين" ونظائره، والمماثل في قوله: "ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها" والطباق في "تضل" و "تذكر" و "صغيرا وكبيرا"، وهي كثيرة، وتؤخذ مما تقدم فلا حاجة إلى التكثير بذكرها. وقرأ أيضا: "والله بما تعملون" بالغيبة جريا على قراءته بالغيبة. السلمي