وقرأ "إلا وسعها" جعله فعلا ماضيا، وخرجوا هذه القراءة على أن الفعل فيها صلة لموصول محذوف تقديره: "إلا ما وسعها" [ ص: 698 ] وهذا الموصول هو المفعول الثاني كما كان "وسعها" كذلك في قراءة العامة، وهذا لا يجوز عند البصريين، بل عند الكوفيين، على أن إضمار مثل هذا الموصول ضعيف جدا إذ لا دلالة عليه، وهذا بخلاف قول الآخر: ابن أبي عبلة:
1148 - ما الذي دأبه احتياط وحزم وهواه أطاع يستويان
وقول أيضا: حسان 1149 - أمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء
قوله: "لها ما كسبت" هذه الجملة لا محل لها لاستئنافها وهي كالتفسير لما قبلها; لأن عدم مؤاخذتها بكسب غيرها واحتمالها ما حصلته هي فقط من [ ص: 699 ] جملة عدم تكليفها بما لا تسعه. وهل يظهر بين اختلاف لفظي فعل الكسب معنى أم لا؟ فقال بعضهم: نعم، وفرق بأن الكسب أعم، إذ يقال: "كسب" لنفسه ولغيره، و "اكتسب" أخص; إذ لا يقال: "اكتسب لغيره" وأنشد قول الحطيئة:
1150 - ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... ... ... ...
ويقال: هو كاسب أهله، ولا يقال: مكتسب أهله.
وقال "فإن قلت: لم خص الخير بالكسب والشر بالاكتساب؟ قلت: في الاكتساب اعتمال، ولما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمارة به كانت في تحصيله أعمل وآجد فجعلت لذلك مكتسبة فيه، ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال". الزمخشري:
وقال "وكرر فعل الكسب فخالف بين التصريف حسنا لنمط الكلام، كما قال تعالى: ابن عطية: "فمهل الكافرين أمهلهم" هذا وجه، والذي يظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما يكسب دون تكلف، إذ كاسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة، إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى، ويتجاوز إليها فحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازا لهذا المعنى". وقال بعضهم: "لا فرق، وقد [ ص: 700 ] جاء القرآن بالكسب والاكتساب في مورد واحد. قال تعالى: "كل نفس بما كسبت رهينة". وقال تعالى: "ولا تكسب كل نفس إلا عليها"، وقال تعالى: "بغير ما اكتسبوا" فقد استعمل الكسب والاكتساب في الشر".
وقال "وقال قوم: "لا فرق بينهما، وذكر نحوا مما تقدم. وقال آخرون: "افتعل يدل على شدة الكلفة. وفعل السيئة شديد لما يؤول إليه". وقال أبو البقاء: "الصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والاكتساب واحد لا فرق بينهما، قال الواحدي: ذو الرمة:
1151 - ... ... ... ... ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب
قلت: وإنما أتى في الكسب باللام وفي الاكتساب بـ "على"; لأن اللام تقتضي الملك والخير يحب ويسر به، فجيء معه بما يقتضي الملك، ولما كان الشر يحذر وهو ثقل ووزر على صاحبه جيء معه بـ "على" المقتضية لاستعلائه عليه.
وقال بعضهم: "فيه إيذان أن أدنى فعل من أفعال الخير يكون للإنسان تكرما من الله على عبده حتى يصل إليه ما يفعله معه ابنه من غير علمه به، [ ص: 701 ] لأنه من كسبه في الجملة، بخلاف العقوبة فإنه لا يؤاخذ بها إلا من جد فيها واجتهد". وهذا مبني على القول بالفرق بين البناءين وهو الأظهر.
قوله: "لا تؤاخذنا" يقرأ بالهمزة وهو من الأخذ بالذنب، ويقرأ بالواو، ويحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون من الأخذ أيضا، وإنما أبدلت الهمزة واوا لفتحها وانضمام ما قبلها، وهو تخفيف قياسي، ويحتمل أن يكون من: واخذه بالواو، قاله وجاء هنا بلفظ المفاعلة وهو فعل واحد، لأن المسيء قد أمكن من نفسه وطرق السبيل إليها بفعله، فكأنه أعان من يعاقبه بذنبه، ويأخذ به على نفسه فحسنت المفاعلة. ويجوز أن يكون من باب: سافرت وعاقبت وطارقت. أبو البقاء.
وقرأ أبي: "ربنا ولا تحمل علينا إصرا" بتشديد الميم. قال "فإن قلت: أي فرق بين هذه الشديدة والتي في "ولا تحملنا؟ قلت: هذه للمبالغة في حمل عليه، وتلك لنقل "حمله" من مفعول واحد إلى مفعولين". انتهى يعني أن التضعيف في الأول للمبالغة ولذلك لم يتعد إلا لمفعول واحد، وفي الثانية للتعدية، ولذلك تعدى إلى اثنين أولهما "نا" والثاني "ما لا طاقة لنا به". الزمخشري:
والإصر: في الأصل الثقل والشدة. وقال النابغة:
1152 - يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم والحامل الإصر عنهم بعد ما عرقوا
1153 - أشمت بي الأعداء حين هجرتني والموت دون شماتة الأعداء
1154 - عطفوا علي بغير آ صرة فقد عظم الأواصر
وقرأ "ولا تحمل علينا" بالتشديد مبالغة في الفعل. أبي:
والطاقة: القدرة على الشيء وهي في الأصل، مصدر، جاءت على حذف الزوائد، وكان من حقها "إطاقة" لأنها من أطاق، ولكن شذت كما شذت أليفاظ نحو: أغار غارة، وأجاب جابة، قالوا: "ساء سمعا فساء [ ص: 703 ] جابة"; ولا ينقاس فلا يقال: طال طالة. ونظير أجاب جابة: "أنبتكم من الأرض نباتا" وأعطى عطاء في قوله:
1155 - ... ... ... ... وبعد عطائك المئة الرتاعا
وقوله تعالى: "مولانا" والمولى: مفعل من ولي يلي، وهو هنا مصدر يراد به الفاعل، فيجوز أن يكون على حذف مضاف أي: صاحب تولينا أي: نصرتنا ولذلك قال: "فانصرنا"، والمولى يجوز أن يكون اسم مكان أيضا واسم زمان.
وقوله تعالى: "فانصرنا" أتى هنا بالفاء إعلاما بالسببية; لأن الله تعالى لما كان مولاهم ومالك أمورهم وهو مدبرهم تسبب عنه أن دعوه بأن ينصرهم على أعدائهم كقولك: "أنت الجواد فتكرم علي وأنت البطل فاحم حرمك".
وقد اشتملت هذه السورة على أنواع كثيرة من العلوم، تقدم التنبيه على غالبها، والذكي مستغن عن التصريح بالتلويح. [ ص: 704 ] انتهى الجزء الثاني من كتاب الدر المصون وقد اشتمل على تتمة سورة